وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به فقال عز من قائل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (١) (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢) فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت ، وبان عليه الاختلال. وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره ، فتأمله تعرف الفضل.
وفي ذلك معنى ثابت وهو أن عجيب نظمه ، وبديع تأليفه ، لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص ، ومواعظ ، واحتجاج وحكم ، وأحكام وأعذار ، وإنذار ، ووعد ووعيد وتبشير ، وتخويف وأوصاف ، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة ، وسير مأثورة ، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل ، والشاعر المفلق ، والخطيب المصقع ، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.
فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو. ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح. ومنهم يسبق في التقريظ دون التأبين. ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ. ومنهم من يغرب في وصف الإبل والخيل ، أو سير الليل ، أو وصف الحرب ، أو وصف الروض ، أو وصف الخمر ، أو الغزل أو غير ذلك ، مما يشتمل عليه الشعراء ويتداوله الكلام.
ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب ، والنابغة إذا رهب ، وبزهير إذا رغب. ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام. ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها ، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى ، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ، ووقف دونه ، وبان الاختلاف على شعره ، ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر ، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم ، فإذا كان الاختلال بيّنا في شعرهم لاختلاف ما يتصرفون فيه ، واستغنينا عن ذكر من هو دونهم. وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها.
ثم نجد في الشعراء من يجوّد في الرجز ، ولا يمكنه نظم القصيد أصلا. ومنهم من ينظم القصيد ، ولكن يقصّر فيه مهما تكلفه أو عمله. ومن الناس من يجوّد في الكلام المرسل ، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا عجيبا. ومنهم من يوجد بضد ذلك.
وقد تأملنا نظم القرآن ، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها ،
__________________
(١) آية (٢٣) سورة الزمر.
(٢) آية (٨٢) سورة النساء.