يَعْلَمُونَ) (١) وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم ويشتغل بملابسة أهل صنعة ، لم يخف على الناس أمره. ولم يختلف عندهم مذهبه ، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم وإن كان نادرا. وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعليم ، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها فلو كان منهم لم يخف أمره.
والوجه الثالث : أنه بديع النظم ، عجيب التأليف ، متناه في البلاغة ، إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة. ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ، ونكشف الجملة التي أطلقوها.
فالذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه منها : ما يرجع إلى الجملة. وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه ، واختلاف مذاهبه ، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم ، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم ، تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه ، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى ، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع ، ثم إلى معدل موزون غير مسجع ، ثم إلى ما يرسل إرسالا ، فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع ، وترتيب لطيف ، وإن لم يكن معتدلا في وزنه. وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له.
وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه ، ومباين لهذه الطرق ، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع ، ولا فيه شيء منه. وكذلك ليس من قبيل الشعر لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع ، ومنهم من يدعى أن فيه شعرا كثيرا ، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع ، فهذا إذا تأمله المتأمل تبين بخروجه عن أصناف كلامهم ، وأساليب خطابهم ، أنه خارج عن العادة ، وأنه معجز ، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن. وتميّز حاصل في جميعه. ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة ، والغرابة والتصرف البديع والمعاني اللطيفة ، والفوائد الغزيرة ، والحكم الكثيرة ، والتناسب في البلاغة ، والتشابه في البراعة ، على هذا الطول ، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة ، وألفاظ قليلة ، وإلى شاعرهم قصائد محصورة ، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال ، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف ، ويقع فيها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز والتعسف.
__________________
(١) آية (١٠٥) سورة الأنعام.