فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل ، والقول المسفسف ، فليس يصحّ أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة ، فيطلب فيه التمنع ، أو يوضع فيه الإعجاز. ولكن لو وضع في وحشي مستكره ، أو غمر بوجوه الصنعة ، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف ، لكان لقائل أن يقول فيه : ويعتذر ويعيب ويقرع. ولكنه أوضح مناره ، وقرب منهاجه ، وسهل سبيله ، وجعله في ذلك متشابها متماثلا. وبين مع ذلك إعجازهم فيه. وقد علمت أن كلام فصحائهم ، وشعر بلغائهم ، لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر ، أو وحشي مستكره ، ومعان مستبعدة.
ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع ، لا يوجد دونه في الرتبة. ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين ، متصرف بين المنزلتين ، فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس (١) :
«قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» (٢).
ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ، ما يتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة ، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها ، على وجه يؤخذ باليد ويتناول من كتب ، ويتصور في النفس كتصور الأشكال ، ليبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.
واعلم أن من قال من أصحابنا إن الأحكام معللة بعلل موافقة مقتضى العقل ، جعل هذا وجها من وجوه الإعجاز ، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه كنحو ما يعللون به الصلاة ، ومعظم الفروض وأصولها. ولهم في كثير من تلك العلل طرق قريبة ، ووجوه تستحسن. وأصحابنا من أهل خراسان يولعون بذلك. ولكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم ، وفي ذلك كلام يأتي في كتابنا في الأصول.
وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد ، فإنا جمعنا بين أمور وذكرنا المزية المتعلقة بها ، وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتقاده في إظهار الإعجاز فيه. فإن قيل : فهل تزعمون أنه معجز لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه ، أو لأنه عبارة عنه ، أو لأنه قديم في نفسه ، قيل : لسنا نقول بأن الحروف قديمة ، فكيف يصح التركيب على الفاسد؟
ولا نقول أيضا إن وجه الإعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن الكلام القديم. لأنه لو
__________________
(١) سبقت ترجمته.
(٢) صدر البيت الأول من معلقته.