فهذا وما أشبه إنما يحدث من غلوّه في محبة الصنعة ، حتى يعميه عن وجه الصواب ، وربما أسرف في المطابق والمجانس ووجوه البديع من الاستعارة وغيرها ، حتى استقلّ نظمه ، واستوخم رصعه ، وكان التكلف باردا ، والتصرف جامدا ، وربما اتفق مع ذلك في كلامه النادر المليح ، كما يتفق البارد القبيح.
فأما البحتري فإنه لا يرى في التجنيس ما يراه أبو تمام ، ويقل التصنع له. فإذا وقع في كلامه ، كان في الأكثر حسنا رشيقا ، وظريفا جميلا ، وتصنعه للمطابق كثير حسن ، وتعمقه في وجوه الصنعة على وجه طلب السلامة والرغبة في السلاسة ، فلذلك يخرج سليما من العيب في الأكثر.
وأما وقوف الألفاظ به عن تمام الحسنى ، وقعود العبارات عن الغاية القصوى ، فشيء لا بد منه ، وأمر لا محيص عنه ، وكيف وقد وقف على من هو أجل منه وأعظم قدرا في هذه الصنعة ، وأكبر في الطبقة ، كامرئ القيس ، وزهير ، والنابغة ، وإلى يومه ونحن نبين تميز ، كلامه وانحطاط درجة قولهم ، ونزول طبقة نظمهم عن بديع نظم القرآن في باب مفرد ، يتصور به ذو الصنعة ما يجب تصوره ، ويتحقق وجه الإعجاز فيه بمشيئة الله وعونه.
ثم رجع الكلام بنا إلى ما قدمناه ، من أنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر ووصفوه فيه. وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة ، ويخرج عن العرف ، بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب به والتصنع له ، كقول الشعر ، ووصف الخطب ، وصناعة الرسالة ، والحذق في البلاغة. وله طريق يسلك ، ووجه يقصد ، وسلّم يرتقى فيه إليه ، ومثال قد يقع طالبه عليه. فرب إنسان يتعود أن ينظم جميع كلامه شعرا ، أو يتعود أن يكون جميع خطابه سجعا ، أو صنعة متصلة ، لا يسقط من كلامه حرف ، وقد يبادئ به ما قد تعوده ، وأنت ترى أدباء زماننا يضيفون المحاسن في جزء ، وكذلك يؤلفون أنواع البارع ، ثم ينظرون فيه إذا أرادوا إنشاء قصيدة ، أو رسالة ، أو خطبة ، فيحشون به كلامهم.
ومن كان قد تدرب وتقدم في حفظ ذلك ، اشتغل عن هذا التصنيف ولم يحتج إلى تكلف هذا التأليف ، وكان ما أشرف عليه من هذا الشأن باسطا من باع كلامه ، وموشحا بأنواع البديع ما يحاوله من قوله ، وهذا طريق لا يتعذر ، وباب لا يمتنع ، وكل يأخذ فيه مأخذا ، ويقف فيه موقفا على قدر ما معه من المعرفة ، وبحسب ما يمده من الطبع.
فأما شأو نظم القرآن ، فليس له مثال يحتذي إليه ، ولا إمام يقتدى به ، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا ؛ كما يتفق للشاعر البيت النادر ، والكلمة الشاردة ، والمعنى الفذ الغريب ،