إلا بما فيه» وقال لعبد بني الحسحاس حين أنشده :
«كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا» أما إنه لو قلت مثل هذا لأجزتك عليه.
وروي أن جريرا سأل عن أحسن الشعر ، فقال قوله :
إن الشقي الذي في النار منزله |
|
والفوز فوز الذي ينجو من النار |
كأنه فضله لصدق معناه. ومنهم من يختار الغلو في قول الشعر والإفراط فيه حتى ربما قالوا «أحسن الشعر أكذبه» كقول النابغة :
يقدّ السلوقيّ المضاعف نسجه |
|
ويوقدن بالصّفاح نار الحباحب |
وأكثرهم على مدح المتوسط بين المذهبين في الغلو والاقتصاد ، وفي المتانة والسلامة ، ومنهم من رأى أن أحسن الشعر ما كان أكثر صنعة ، وألطف تعملا ، وأن يتخير الألفاظ الرشيقة للمعاني البديعة والقوافي الواقعة ، كمذهب البحتري ، وعلى ما وصفه عن بعض الكتاب :
في نظام من البلاغة ما شك |
|
ك امرؤ أنه نظام فريد |
وبديع كأنه الزهر الضا |
|
حك في رونق الربيع الجديد |
حزن مستعمل الكلام اختيارا |
|
وتجنبن ظلمة التعقيد |
وركبن اللفظ القريب فأدركن |
|
به غاية المراد البعيد |
ويرون أن من تعدى هذا كان سالكا مسلكا عاميا ولم يروه شاعرا ولا مصيبا. وفيما كتب الحسن بن عبد الله أبو أحمد العسكري قال : أخبرني محمد بن يحيى ، قال : أخبرني عبد الله بن الحسن ، قال : قال لي البحتري : دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه ، فأفضنا في أشعار المحدثين إلى أن ذكرنا شعر أشجع ، فقال لي : إنه يخلي ، وأعادها مرات ، ولم أفهمها ؛ وأنفت أن أسأله عن معناها ، فلما انصرفت فكرت في الكلمة ، ونظرت في شعره ، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع ؛ وإذا هو يريد هذا بعينه ، أن يعمل الأبيات ، فلا يصيب فيها ببيت نادر ، كما أن الرامي إذا رمى برشقة فلم يصب بشيء قيل قد أخلى. قال : وكان علي بن الجهم أحسن الناس علما بالشعر.
وقوم من أهل اللغة يميلون إلى الرصين من الكلام ، الذي يجمع الغريب والمعاني ، مثل أبي عمرو بن العلاء ، وخلف الأحمر ، والأصمعي. ومنهم من يختار الوحشي من الشعر ، كما اختار المفضل للمنصور من المفضليات. وقيل : إنه اختار ذلك لميله إلى ذلك الفن.