وذكر الحسن بن عبد الله أنه أخبره بعض الكتاب عن علي بن العباس قال : «حضرت مع البحتري مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ، وقد سئل البحتري عن أبي نواس ومسلم بن الوليد ، أيهما أشعر؟ فقال البحتري : أبو نواس أشعر ، فقال عبيد الله : إن أبا العباس ثعلبا لا يطابقك على قولك ، ويفضل مسلما ، فقال البحتري : ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عملهن ، إنما يعلم ذلك من وقع في سلك الشعر إلى مضايقه ، وانتهى إلى ضروراته.
فقال له عبيد الله : وريت بك زنادي يا أبا عبادة ، وقد وافق حكمك حكم أخيك بشار ابن برد في جرير والفرزدق أيهما أشعر؟
فقال : جرير أشعرهما ، فقيل له : بما ذا؟
فقال : لأن جريرا يشتد إذا شاء ، وليس كذلك الفرزدق ؛ لأنه يشتد أبدا.
فقيل له : فإن يونس وأبا عبيدة يفضلان الفرزدق على جرير.
فقال : ليس هذا من عمل أولئك القوم. إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله. وفي الشعر ضروب لم يحسنها الفرزدق ، ولقد ماتت النّوار امرأته فناح عليها بقول جرير :
لو لا الحياء لعادني استعبار |
|
ولزرت قبرك والحبيب يزار |
وروي عن أبي عبيدة أنه قال للفرزدق : ما لك لا تنسب كما ينسب جرير؟ فغاب حولا ثم جاء فأنشد :
يا أخت ناجية بن سامة إنني |
|
أخشى عليك بنيّ إن طلبوا دمي |
والأعدل في الاختيار ما سلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في كتاب «الحماسة» وما اختاره من «الوحشيات» وذلك أنه تنكر المستنكر الوحشي ، والمبتذل العامي ، وأتى بالواسطة. وهذه الطريقة من ينصف في الاختيار ، ولا يعدل به غرض يخص ؛ لأن الذين اختاروا الغريب فإنما اختاروه لغرض لهم في تفسير ما يشتبه على غيرهم ، وإظهار التقدم في معرفته وعجز غيرهم عنه ، ولم يكن قصدهم جيد الأشعار لشيء يرجع إليها في أنفسها ، ويبين هذا أن الكلام موضوع للإبانة عن الأغراض التي في النفوس.
وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد ، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب ، ولم يكن مستكره المطلع على الأذن ، ومستنكر المورد على النفس ، حتى يتأبى بغرابته في اللفظ عن الإفهام ، أو يمتنع بتعويض معناه عن الإبانة. ويجب أن يتنكب ما كان عليه اللفظ ، مبتذل العبارة ، ركيك المعنى ، سفسافي