ووقفا في مواجهة هذا الجمع المهزوم ليقولا له : إنّنا نملك القوّة الّتي تستطيع أن تحكم الفكر والنّاس والحياة ، وكل هذه الأمور من وسائل القوّة الغالبة ، فلندخل الباب عليهم ولنهاجمهم في عقر دارهم ، ليكونوا في موقع الضعف ، ونكون في موقع القوّة ، فإنّ القوم طلاب ملك ونحن جنود رسالة ، وستتغلب الرسالة على الملك إذا أخذت بأسباب القوّة الماديّة ، مضافا إلى ما تملكه من القوّة الروحيّة : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٢٣].
ولكنّ هذه الكلمات ضاعت في هدير الهزيمة وضجيج التخاذل ، وانطلق الصوت المهزوم يتكلم بلغة الهزيمة الّتي تحاول أن تعطي الكلمات صفة القرار الحاسم : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) تلك هي الكلمة الأخيرة الّتي لا تقبل نقاشا ، وامتد الصوت ليعلن الانفصال عن موسى عليهالسلام ، فهم غير ملزمين بطاعته في القتال ، لأنّهم يحبون الحياة أكثر مما يحبون المقدّسات. (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أمّا إذا كان موسى عليهالسلام يحدّثهم عن الله ، ويستعين به عليهم ، ويملأ قلوبهم بالشعور بقوّته ، فليذهب هو وربّه فليقاتلا إذا كانا يريان القتال لازما ، ويريان المعركة منتصرة ، فتلك هي مسئوليتهما لخدمة الرسالة الّتي أرسلها الله وحملها موسى عليهالسلام ، أمّا هم ؛ جنوده وأتباعه ، فلا مسئوليّة لهم في ذلك كله ، فإنّهم قاعدون منتظرون للنتائج الإيجابيّة أو السلبيّة.
وشعر موسى بالحرج ، فلم يعد لديه أيّة سلطة أو قوّة يمكن أن يمارسها على هؤلاء النّاس ، وكان يريد أن يعذر إلى الله ليخرج من حدود المسؤوليّة ، على رضى من الله ومحبة ، فتوجه إلى الله ليعلن إليه ما يعمله الله من ظروفه : (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) ، ولا أملك أحدا من هؤلاء في ما يملكه القائد من أمر جنوده ، (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، الّذين خرجوا عن