التقنين بين الدين والمبادئ الوضعية
ربَّما كان من خصوصيات الأديان ومن بينها الإسلام بالنسبة إلى المبادئ الوضعية ، هذا الشمول في التشريع ، بحيث يتدخل في كل خصوصيات الإنسان ، فيحدد له تكاليفه حتّى في مأكولاته ومشروباته وملبوساته وزواجه .. فلم يجعل له الحريّة في ممارسة ذلك كله إلَّا في نطاق ما أحلّ الله ، فإذا تجاوز بعض ذلك ، كان عاصيا مستحقا للعقوبة في الآخرة وفي الدنيا في بعض الحالات. وربَّما كان الفرق بين فكرة التقنين في المبادئ الوضعيّة أو المبادئ الشرعيّة ، هي أنَّ القانون الوضعي ينطلق ـ غالبا ـ من دراسة الإنسان من حيث هو كائن اجتماعي ، يتبادل المسؤوليّة بينه وبين المجتمع ، فهو من جهة مسئول عن المجتمع ، ومن جهة أخرى المجتمع مسئول عنه ، ولا دخل له في حياته الخاصة إلَّا بقدر ارتباطها بسلامة المجتمع. من هنا ، فإنَّ أي تشريع يتناول الفرد كفرد يعتبر اعتداء على الحريّة الشخصيّة ، أمّا الإسلام ، فإنَّه ينطلق من فكرة أنَّ الإنسان مخلوق لله وعبد له ، فليس له الحرّية في أن يعمل أي عمل ، أو يتحرك في أي مشروع ، إلّا من خلال الرخصة الّتي يتلقاها من الله. وبذلك كان الله ـ من خلال شريعته ـ هو الَّذي ينظم له حياته الشخصية والاجتماعية ، فيحدد له كل ما يتصرف فيه من شؤونه الخاصة والعامة ، ولم يمنحه الحريّة في الإضرار بحياته سواء من ناحية الأكل والشرب ، أو غيرهما ، لأنَّه لا يملك نفسه ، بل هو ملك الله ، فليس له أن يتصرف في ملك الله إلَّا بإذن منه ، وهكذا يتدخل التشريع في حياة الإنسان الخاصة ، ليضغط على حريّته في نطاق مصلحته الحقيقية.
* * *