بالطريقة الحسيّة المادية : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] في ما أبدعه الله في تكوينها من ذلك في مسار التجربة الخاصة لداود عليهالسلام. على أن هناك آخرين لا يقتصرون في التصرف بظاهر القرآن على المورد الذي لا يتفق فيه الظاهر مع الحقيقة القطعية ، حيث يكون الأخذ بالظاهر مرادفا للأخذ بالمستحيل أو الذي لا يتفق فيه مع الدليل الثابت بشكل مقبول ، بل يجدون الاطمئنان العقلي أو النفسي عند ما تتوفر الأجواء المحيطة بالموضوع كافيا في الخروج عن الظاهر ، فهم في الوقت الذي لا ينكرون فيه أن يكون للجبال وعي التسبيح في ما لا نفهمه منها ، أو يكون للطير وعي الانسجام مع داود بطريقة إراديّة ، لا يجدون المسألة قريبة من الذهنية العامة التي يخاطب فيها القرآن الناس في تصورهم للأشياء من خلال المفردات الحسية الموجودة لديهم ، إذ يبدو أن ترجيع الجبال أو تسبيح الطير معه وارد على سبيل الاستعارة ، تماما كما يقول الناس إن الكون كله يتحرك معه ، أو يسبّح معه ، ونحو ذلك.
(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) فجعلناه ليّنا في يديه يتصرف به كيف يشاء ، ويصنعه كما يريد ، (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) وهي الدروع الواسعة ، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي اقتصد فيه واجعله متناسقا متناسبا في حلقاته. وهكذا هيّأ الله له هذه المهنة المهمّة وهي صنع الدروع ليستطيع أن يعيش من كدّ يمينه ، ليكون قدوة للناس ، لا سيّما العاملين في الخط الديني الرسالي الذين تسمح لهم مواقع نشاطهم بالعمل في سبيل العيش ليعرفوا أن العمل شرف للعامل ، ورسالة في حياته من خلال علاقته بالهدف الكبير في حركة المسؤولية.
وقد ثار جدل كبير بين المفسرين ، حول ما إذا كانت هذه الإلانة للحديد لداود ، جارية على سبيل الإعجاز ، كما هو الظاهر من النسبة المباشرة لله ، ومن اعتبار هذا الأمر كرامة لداود ، وميزة له على الآخرين ، أو كانت جارية على الوضع الطبيعي ، ليكون الحديث عنه كالحديث عن كل الأفعال الإرادية