قسمنا السير فيها بحيث كانت مراحل السير متوازنة ، فيصبح المسافر في واحدة منها ، ويمسي في أخرى في أجواء ملائمة ، (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) لأن الأوضاع التي كانت تسود خط السير في كل القرى المتتابعة كانت طبيعية آمنة ، بعيدة عن أجواء النزاع والخلاف ، مما يجعل السائر فيها يشعر بالأمن والطمأنينة والاستقرار النفسي.
وهكذا كان وضع قوم سبأ في حلّهم وترحالهم ، في أمان واطمئنان ، فلا يخشى أحد منهم على نفسه ، ولا على ماله ، ولا يحتاج في سفره إلى أيّ جهد. ولكنهم كفروا بنعمة الله ، ولم يشكروا له ، (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) فقد مللنا من هذا الرخاء الذي لا يثير فينا جهدا ، ولا يكلفنا تعبا ، ولا يخلق لنا مشكلة ، ـ قالوها ـ من موقع كفرهم بالنعمة ، وابتعادهم عن الله ، فلم يطلبوها بألسنتهم ، ولكن أعمالهم فرضت ذلك ، فكأنّ أعمالهم تنادي بذلك. وربما كان الأمر جاريا على سبيل الحقيقة ، فإن الناس قد يملّون من الرخاء فيطلبون الشدّة ، ولهذا طلبوا أن تكون طريقهم إلى الشام ، طريق فلاة وصحراء ، يعانون فيها جهد السير وظمأ القلب وجوع الجسد ، (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالابتعاد بها عن الطريق المستقيم الذي يوفر عليهم كل النتائج السلبية في الحياة (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) تتناقلها الأجيال ، للعبرة أو للتسلية ، (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقناهم في كل البلاد ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي دلالات (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ليعرف كيف ينقذ الصبر والشكر صاحبه من الهلاك.
* * *