وأطاعوه (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين انفتحوا على الله من مواقع الحق المشرق في آفاق الفكر الواعي الممتد في كل رحاب الحياة ، فيزنون الأمور بموازينها ، ويقيسون القضايا المتنازع عليها بمقاييسها الدقيقة ، ويناقشون الأفكار بحكمة ، ويبلورون القناعات بعمق وصفاء ... هؤلاء الذين لا يدخلون الغرائز في آفاق العقيدة ، ولا يثيرون الأفكار في ساحة الشهوات ، ولا يحركون المواقف في أجواء الأطماع ، بل يضعون كل شيء موضعه ، فللفكر موقعه ، وللغريزة مواقعها ، ففي الفكر عمق الانتماء وامتداد القناعة ، وفي الغريزة حاجة الحس وغذاء الجسد ، فلا يختلط موقع أحدهما بموقع الآخر ، لتتوازن القضايا عندهم في طبيعتها ، وتتركز في نتائجها.
(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) فليس له أن يقهر أحدا على اعتناق فكرة معينة ، أو يجبر أحدا على سلوك طريق معين ، فللإنسان حريته في اختياره ، من خلال ما يملكه من عقل وإرادة. وكما الإرادة تخضع لتوجيهات العقل والإيمان ، فقد تميل إلى الشهوات المحرمة التي يثيرها إبليس بوسوسته وتزيينه وإثارته للإغراء في أكثر من موقع للإنسان ، ليقف الناس بين الحق والباطل ، والخير والشرّ ، وليعيشوا حركة الاهتزاز في عملية الاختيار ، ولم يكن ذلك (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) على أساس الالتزام بالعمق الفكري للمسألة الذي يضع الإيمان بالآخرة في نصابها الصحيح من موقعها في ساحة الحقيقة ، ومن اعتبارها أساسا لإبعاد الوجود الإنساني ـ وفق إرادة الله ـ عن دائرة العبث (مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) لخضوعه للاهتزاز الفكري المشدود إلى اهتزاز الحسّ في مألوفاته وفي غرائزه وشهواته ، فلا يستقر على رأي ، ولا يطمئن إلى موقف ، (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) لا يفوته أيّ شيء مما يحدث في الكون ، ولا مما يفكر به الإنسان.
وقد توحي كلمة (لِنَعْلَمَ) بأن تحريك الشيطان للدخول في مشاعر الإنسان ، يستهدف أن يعلم الله المؤمنين من الشاكّين ، مما يعني أن الله يحتاج