ولما حضرت الفتاة وزوجها لدى القاضي وسألها عن السبب في الهروب من البيت والزواج بدون إذن وليها قالت : سيدي ، أنا عمري خمسة وعشرون عاماً وأحببت الزواج من هذا الرجل على سنة الله ورسوله ، ولأن أبي يريد أن يزوجني بمن أكره ، فتزوجت على رأي أبي حنيفة الذي يعطيني حق الزواج بمن أحب لأني بالغة.
يقول القاضي رحمة الله عليه (روى لي هو بنفسه هذه القصة) «فجئنا في المسألة فوجدناها على حق ، وأعتقد بأن أحد العلماء المطّلعين هو الذي لقّنها ما ذا تقول» يقول هذا القاضي فرددت دعوة الأب وأمضيت الزواج فخرج الأب غاضباً يضرب يديه على بعضها ويقول : «حنّفت الكلبة» أي أن أبنته تركت مالك واتبعت أبا حنيفة ، وكلمة الكلبة فيها إهانة لابنته التي قال فيما بعد بأنه يتبرأ منها. والمسألة هي إختلاف في اجتهاد المذاهب فبينما يرى مالك أن الفتاة البكر لا يصح زواجها إلا بأذن ولي الأمر وحتى إذا كانت ثيبا فهو شريكها في الزواج فلا تنفرد به وحدها ولا بد من موافقته ، يرى أبو حنيفة : أن البالغة بكراً كانت أم ثيباً ، لها أن تنفرد باختيار الزوج وأن تنشئ العقد بنفسها.
فهذه المسألة الفقهية فرّقت بين الاب وابنته حتى تبرأ منها وكثيراً ما كان الآباء يتبرّءون من بناتهم لعدة أسباب منها الهروب من البيت مع رجل تحب الزواج منه ولهذا التبري عواقب وخيمة إذا أن الأب يلجأ في أغلب الأحيان إلى حرمان ابنته من الميراث وتبقى الفتاة عدوة للإخوة الذين يتبرّءون بدورهم من أختهم التي جلبت لهم العار.
فليست القضية إذن كما يقول أهل السنة بأن في اختلافهم رحمة أو على الأقل ليست الرحمة في كل القضايا الخلافية.
ويبقى بعد هذا خلاف آخر بينهما ألا وهو تقليد الميت ، فأهل السنة يقلدون أئمة ماتوا منذ قرون ، وأغلق عندهم باب الاجتهاد من ذلك العهد ، وكل من جاء بعدهم من العلماء اقتصروا على الشروح والمدونات شعراً ونثراً لفقه المذاهب الأربعة ، وقد تعالت أصوات المنادين من بعض المعاصرين بفتح الباب