قال أبو عبيد : وكانت من العارفات وقال بعضهم : الزم الأدب ظاهرا وباطنا فما أساء أحد الأدب في ظاهر إلا عوقب ظاهرا ، وما أساء أحد الأدب باطنا إلا عوقب باطنا فالأدب استخراج ما في القوة والخلق الى الفعل وهذا يكون لمن ركبت السجية الصالحة فيه والسجية فعل الحق لا قدرة للبشر على تكوينها كتكوّن النار في الزناد إذ هو فعل الله المحض واستخراجه بكسب الآدمي فهكذا الآداب منبعها بالسجايا الصالحية والمنح الإلهية ، ولما هيأ الله تعالى بواطن الصوفية بتكميل السجايا الكاملة فيها تواصلوا بحسن الممارسة والرياضة الى استخراج ما في النفوس مركوزة بخلق الله الى الفعل فصاروا مؤدبين مهذبين.
فصل في آداب أهل الحضرة الإلهية لأهل القرب
كل الآداب تتلقى من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإنه صلىاللهعليهوسلم مجمع الآداب ظاهرا وباطنا ، وأخبر الله سبحانه عن حسن أدبه في الحضرة بقوله تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧]. وهذه غامضة من غوامض الآداب اختص بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم أخبر الله عن اعتدال قلبه المقدس في الإعراض والإقبال أعرض عما سوى الله ، وتوجه الى الله ، وترك وراء ظهره الأرضين والدار العاجلة بحظوظها والسماوات والدار الآخرة بحظوظها ولا لحقه الأسف على الفائت في إعراضه. قال الله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) [الحديد : ٢٣]. فهذا الخطاب للعموم ، وما زاغ البصر إخبار عن حال النبيصلىاللهعليهوسلم بوصف خاص من معنى ما خاطب به العموم ، فكان ما زاغ البصر حاله في طرف الإعراض ، وفي طرف الإقبال تلقى ما ورد عليه في مقام : قاب قوسين بالروح والقلب ، ثم فرّ من الله حياء منه وهيبة وإجلالا وطوى نفسه في مطاوي انكساره وافتقاره ، لكيلا تنبسط النفس فتطغى ، فإن الطغيان عند الاستغناء وصف النفس. قال الله تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ و ٧]. والنفس عند المواهب الواردة على الروح والقلب تسترق السمع ومتى نالت قسطا من المنح استغنت وطغت ، والطغيان يظهر منه فرط البسط ، والإفراط في البسط يسد باب المزيد ، وطغيان النفس لضيق وعائها عن المواهب فموسى عليهالسلام صح له في الحضرة أحد الطرفين. ما زاغ بصره ، وما التفت الى ما فاته متأسفا لحسن أدبه ، ولكن امتلأ من المنح واسترقت النفس السمع وتطلعت الى القسط والحظ فلما حظيت النفس استغنت وطفح عليها ما وصل اليها وضاق نطاقها فتجاوز الحد من فرط البسط وقال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣]. فمنع ولم يطق صبرا وثباتا في قضاء المزيد وظهر الفرق من الحبيب والكليم عليهما الصلاة والسلام. وقال سهل بن عبد الله التستري : لم يرجع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إلى شاهد نفسه ولا الى مشاهدتها وإنما كان مشاهدا بكليته لربه. يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل وهذا الكلام لمن اعتبره موافق لما شرحناه برمز في ذلك من كلام سهل بن عبد الله ، والله أعلم.