الباب الثالث
في بيان معنى السلوك والتصوف
اعلم : أن السلوك هو تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف. وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن ، والعبد في جميع ذلك مشغول عن ربه إلا أنه مشتغل بتصفية باطنه ليستعد للوصول. والذي يفسد على السالك سلوكه شيئان : اتباع الرخص بالتأويلات ، والاقتداء بأهل الغلط من متبعي الشهوات. ومن ضيع حكم وقته فهو جاهل ، ومن قصر فيه فهو غافل ، ومن أهمله فهو عاجز. لا تصح إرادة المريد حتى يكون الله ورسوله وسواس قلبه ، ويكون نهاره صائما ولسانه صامتا. لأن كثرة الطعام والكلام والمنام تقصي القلب. وظهره راكعا وجبهته ساجدة وعينه دامعة وغامضة ، وقلبه حزينا ولسانه ذاكرا.
وبالجملة : قد شغل كل عضو فيه ومعنى فيه بوظيفة ندبه الله ورسوله إليها وترك ما كره الله ورسوله له. وللورع معانقا ولأهوائه تاركا مطلقا ورائيا جميع ما وفقه الله تعالى له من فضل الله عليه ، ويجتهد أن يكون ذلك كله احتسابا لا ثوابا ، وعبادة لا عادة ، لأنه من لاحظ المعمول له اشتغل به عن رؤية الأعمال ونفسه تاركة للشهوات ، فصحة الإرادة ترك الاختيار والسكون الى مجاري الأقدار كما قيل :
أريد وصاله ويريد هجري |
|
فأترك ما أريد لما يريد |
وافن عن الخلق بحكم الله وعن هواك بأمر الله ، وعن إرادتك بفعل الله ، فحينئذ تصلح أن تكون وعاء لعلم الله فعلامة فنائك عن الخلق انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم والإياس عما في أيديهم ، وعلامة فنائك عنك وعن هواك ترك التكسب ، والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر فلا تتحرك فيك بك ، ولا تعتمد عليك لك ، ولا تذب عنك ولا تضر نفسك ، لكن تكل ذلك كله الى من تولاه أولا ليتولاه آخرا ، كما كان ذلك موكلا اليه في حال كونك مغيبا في الرحم ، وكونك رضيعا في مهدك ، وعلامة فنائك عن إرادتك بفعل الله أن لا تريد مرادا قط لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها ، بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله وفعله ساكن الجوارح مطمئن الجنان ، مشروح الصدر ، منور الوجه ، عامر الباطن ، تقلبك القدرة ويدعوك لسان الأزل ، ويعلمك رب الملك ، ويكسوك من نور الحلل ، وينزلك منازل من سلف من أولي العلم.
فصل في لزوم العزلة
على السالك أن يلزم العزلة ليستظهر بها على أعدائه. وهي نوعان : فريضة وفضيلة.