خلالها شيئا من النور ليكمل به ما احتيج إليه ، ثم في القمر علم الشهور والسنين وهو صلاح ونعمة من الله ، ثم في النجوم مآرب أخرى فإن فيها دلائل وعلامات على أوقات كثيرة لعمل من الأعمال كالزراعة والغراسة والاهتداء بها في السفر في البر والبحر وأشياء مما يحدث من الأنواء والحر والبرد ، وبها يهتدي السارون في ظلمة الليل وقطع القفار الموحشة واللجج المائلة كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٩٧]. مع ما في ترددها في السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من البهجة والنضارة ، في تصريف القمر خاصة في استهلاله ومحاقه وزيادته ونقصانه واستنارته وكسوفه. كل ذلك دلالات على قدرة خالقها المصرف لها هذا التصرف لإصلاح العالم ، ثم انظر دوران الفلك بهذه الكواكب في كل يوم وليلة دورانا سريعا وسيرها معلوم مشاهد فإنا نشاهدها طالعة وغاربة ، ولو لا سرعة سيرها لما قطعت هذه المسافة البعيدة في أربعة وعشرين ساعة ، فلو لا تدبير الباري سبحانه بارتفاعها حتى خفي عنا شدة مسيرها في فلكها لكانت تختطف بتوهجها لسرعة حركتها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت في الجو ، فانظر لطف الباري سبحانه في تقدير سيرها في البعد البعيد لكيلا يحدث من سيرها حادث لا يحتمل فهي مقدرة في جميع الأحوال على قدر الحاجة ، وانظر في هذه التي تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها مثل الثريا والجوزاء والشعرى ، فإنها لو كانت كلها تظهر في وقت واحد لم يكن لشيء منها دلالة على جهالة تعرفها الناس ويهتدون بها ، فكان في طلوع بعضها في وقت دون الآخر ما يدل على ما ينتفع به الناس عند طلوعه مما يصلحهم ، ولذلك جعلت بنات نعش ظاهرة لا تغيب لضرب من المصلحة فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس للطرق المجهولة في البر والبحر فإنها لا تغيب ولا تتوارى. ثم انظر لو كانت واقفة لبطلت الدلالات التي تكون من تنقلات المتنقلة منها ومصيرها في كل واحد من البروج كما يستدل على أشياء تحدث في العالم بتنقل الشمس والقمر في منازلهما ولو كانت متنقلة كلها لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يقاس عليه لأنه إنما يعرف مسير المتنقلة منها بتنقلها في البروج الدانية ، كما يعرف سير سائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها ، فقد صار هذا الفلك شمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على هذا العالم بهذا دورانا دائما في الفصول الأربعة من السنة لصلاح ما فيه من حيوان ونبات وغير ذلك بتقدير العزيز العليم ، ومن عظيم الحكمة خلق الأفلاك التي بها ثبات هذا العالم على نهاية من الإتقان لطول البقاء وعدم التغير ، فقد كفى الناس التغير في هذا الأمر الجليل الذي ليس قدرة ولا حيلة في إصلاحه لو نزل به تغير يوجب ذلك التغير أمرا في الأرض. إذ قوام الأرض مرتبط بالسماء ، فالأمر في جميع ذلك ماض على قدرة الباري سبحانه لا يختل ولا يعتل ولا يتخلف منه شيء عن ميقاته لصلاح العالم ، فسبحان العليم القدير.
باب في حكمة خلق الأرض
قال تعالى : (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات : ٤٨].