ثم انظر كيف جعل الله الأرض مهادا ليستقر عليها الحيوان ، فإنه لا بدّ له من مستقر ولا غنى له عن قوت فجميع الأرض محل للنبات لقوته ، ومسكن يسكنه من الحر والبرد ، ومدفن يدفن فيه ما تؤذي رائحته ، والجيف والأقذار من أجسام بني آدم وغيرها ، كما قال سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) [المرسلات : ٢٥ و ٢٦]. قيل في تفسير هذه الآية هذا القول وغيره ، ثم ذلل طرقها لتنتقل فيها الخلق لطلب مآربهم فهي موضوعة لبقاء النسل من جميع أصناف الحيوان والحرث والنبات ، وجعل فيها الاستقرار والثبات كما نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها* وَالْجِبالَ أَرْساها* مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [النازعات : ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣]. فأمكن الخلائق بهذا السفر فيها في مآربهم والجلوس لراحتهم والنوم لهدوئهم والانتقال لأعمالهم ، فإنها لو كانت رجراجة متحركة لم يستطيعوا أن يتقنوا شيئا من النبات وجميع الصناعات وكانوا لا يتهنون بالعيش والأرض ترتج بهم من تحتهم ، واعتبر ذلك بما يصيب الناس في الزلازل ترهيبا للخلق وتخويفا لهم لعلهم يتقون الله وينزعون عن الظلم والعصيان ، فهذا أيضا من الحكمة البالغة ثم إن الأرض طبعها الله باردة يابسة بقدر مخصوص. أرأيت لو أفرط اليبس عليها حتى تكون بجملتها حجرا صلدا لما كانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوانات ، ولا كان يمكن فيها حرث ولا بناء فجعل لينها لتتهيأ لهذه الأعمال ، ومن الحكمة في خلقها ووضعها أن جعل مهب الشمال أرفع من الجنوب لينحدر الماء على وجه الأرض فيسقيها ويرويها ثم يصير إلى البحر في آخر الأمر ، فأشبه ذلك ما إذا رفع أحد جانبي السطح وخفض الآخر لينحدر الماء عنه ، ولو لا ذلك لبقي الماء مستبحرا على وجه الأرض فيمتنع الناس من أعمالهم وتنقطع الطرق والمسالك بسبب ذلك. انظر إلى ما خلق الله فيها من المعادن وما يخرج منها من أنواع الجواهر المختلفة في منافعها وألوانها مثل الذهب والفضة والياقوت والزمرد والبسنفش وأشياء كثيرة من هذه الأحجار الشفافة المختلفة في ألوانها وأنواع أخر مما يصلح للأعمال والجمال كالحديد والنحاس والقصدير والرصاص والكبريت والزرنيخ والتوتيا والرخام والجبس والنفط وأنواع لو عددت لطال ذكرها وهو مما لا ينتفع به الناس وينصرف فيما يصلحهم. فهذه نعم يسّرها سبحانه لهم لعمارة هذه الدار ، ثم انظر إلى إرادة إجادته من عمارتها وانتفاع العباد بها يجعلها هشة سهلة بخلاف ما لو كانت على نحو خلق الجبال فلو يبست كذلك لتعذرت ، فإن الحرث لا يستقيم إلا مع رخو الأرض لزراعة الأقوات والثمر ، وإلا فلا يتعدى. إذا صلبت. الماء إلى الحب مع أن الحب لا يمكن دفنه إلا بعد أن تلين الأرض بالنداوة ويأخذ الورق وهي ضعيفة في ابتدائها في الأرض التربة. ويمكن إذ ذلك عملها وتحريكها حتى تشرب ما ينزل عليها من الماء فيخلق الله سبحانه عند ذلك العروق ملتبسة بالثرى حتى يقف الشجر والنبات على ساقه وجعل ما يخلق من العروق يوازن ما يخلق من الفروع ، ومن رحمته في لينها أن يسّر للناس حفر الآبار في المواضع المحتاجة إلى ذلك