فقال : أحسن الظن بالمسلمين ، وأقول إنهم لا يشتغلون بالمعاملة إلا بعد تعديل الموازين ، فإن عرض لي شكّ في بعض الموازين أخذته ورفعته ونظرت إلى كفتي الميزان ولسانه ، فإذا استوى انتصاب اللسان من غير ميل إلى أحد الجانبين ورأيت مع ذلك تقابل الكفتين. عرفت أنه ميزان صحيح صادق.
قلت : هب أن اللسان قد انتصب على الاستواء ، وأن الكفتين متحاذيتان على السواء ، فمن أين تعلم أن الميزان صادق؟
فقال : أعلم ذلك علما ضروريا يحصل لي من مقدمتين : إحداهما تجريبية ، والأخرى حسيّة. أما التجريبية فهي أني علمت بالتجربة أن الثقيل يهوي إلى أسفل ، وأن الأثقل أشدّ هويا فأقول : لو كانت إحدى الكفتين أثقل لكانت أشد هويا فهذه مقدمة كلية تجريبية حاصلة عندي ضرورة. والمقدمة الثانية هي أن هذا الميزان بعينه رأيته لم تهو إحدى كفتيه ، بل حاذت الأخرى محاذاة مساواة. وهذه مقدمة حسية شاهدتها بالبصر فلا أشك لا في المقدمة الحسية ولا في الأولى وهي مقدمة التجربة. فيلزم في قلبي من هاتين المقدمتين نتيجة ضرورية وهي العلم باستواء الميزان. إذ أقول : لو كانت إحداهما أثقل لكانت أهوى ومحسوس أنها ليست بأهوى ، فمعلوم أنها ليست بأثقل.
قلت له : فهل هذا إلّا رأي وقياس عقلي؟
قال : هيهات فإن هذا علم ضروري لزم من مقامات يقينية حصل اليقين بها من التجربة والحسّ فكيف يكون هذا رأيا وقياسا. والرأي والقياس حدس وتخمين لا يفيدان برد اليقين وأنا أحس في هذا بردّ اليقين.
قلت : فإن عرفت صحّة الميزان بهذا البرهان فبم عرفت الصنجة والمثقال. فلعله أخف أو أثقل من المثقال الصّحيح؟
فقال : إن شككت في هذا أخذت عيارة من صنجة معلومة عندي فأقابلها بها فإذا ساوى علمت أن الذهب إذا ساواه كان مساويا لصنجتي فإن المساوي للمساوي مساو.
قلت : هل تعلم واضع الميزان في الأصل من هو ، وهل هو الواضع الأوّل؟ والذي وضعه يعلم هذا الوزن.
قال : لا ، ومن أين أحتاج إليه وقد عرفت صحّة الميزان بالمشاهدة والعيان. بل آكل البقل من حيث يؤتى به ولا أسأل عن المبقلة ، فإن واضع الميزان لا يراد لعينه ، بل يراد ليعرف منه صحة الميزان وكيفية الوزن به. وأنا قد عرفته كما حكيته ، وعرفته فاستغنيت عن مراجعة صاحب الميزان عند كل وزن فإن ذلك يطول ولا يظفر به في كل حين مع أني في غنية عنه.
قلت : فإن أتيتك بميزان في المعرفة مثل هذا وأوضح منه وأزيد عليه بأني أعرف واضعه ومعلمه ومستعمله فيكون واضعه هو الله تعالى ومعلّمه جبريل ومستعمله الخليل ومحمّد وسائر النّبيين عليهمالسلام أجمعين. وقد شهد الله تعالى لهم في ذلك بالصدق. فهل تقبل ذلك مني؟ وهل تصدق به؟