واستعداد كل واحد لمقصود خاص كاليد للبطش والرجل للمشي ، ومعرفة تشريح الأعضاء يورث علما ضروريا به ، وأما افتقار المرتب المنظوم إلى علم واضح أيضا فلا يشك العاقل في أن الخط المنظوم لا يصدر إلا من عالم بالكتابة وإن كان بواسطة القلم الذي لا يعلم ، وأن البناء الصالح لإفادة مقاصد الاكتنان كالبيت والحمام والطاحونة وغيرها لا يصدر إلّا من عالم بالبناء ، فإن أمكن التشكيك في شيء من هذا فطريقه أن يترقى منه إلى أوضح منه حتى يترقى إلى الأوليات. وشرح ذلك ليس من غرضنا بل الغرض أن نبين أن ازدواج الأوّليات على الوجه الذي أوقعه الخليل عليهالسلام ميزان صادق مفيد لمعرفة حقيقية. ولا قائل بإبطال هذا فإنه إبطال لتعليم الله تعالى أنبياءه ، وإبطال لما أثنى الله عليه إذ قال : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣]. والتعليم لا محالة حق إن لم يكن الرأي حقا وفي إبطال هذا إبطال الرأي والتعليم جميعا ولا قائل به أصلا
القول في الميزان الأوسط
قال : قد فهمت الميزان الأكبر وحده وعياره ومظنته وحقيقة استعماله فاشرح لي الميزان الأوسط ما هو ، ومن أين حصل تعليمه ، ومن وضعه ، ومن استعمله؟
فقلت : الميزان الأوسط أيضا للخليل عليهالسلام حيث قال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦]. وكمال صورة هذا الميزان أن القمر آفل والإله ليس بآفل فالقمر ليس بإله. ولكن القرآن على الإيجاز والإضمار مبناه ، لكن العلم ينفي الإلهية عن القمر لا يصدر ضروريا إلا بمعرفة هذين الأصلين وهو أن القمر آفل وأن الإله ليس بآفل ، فإذا عرفت الأصلين صار العلم بنفي الإلهية عن القمر ضروريا.
فقال : أنا لا أشك في أن نفي الإلهية عن القمر يتولد من هذين الأصلين إن عرفا جميعا ، لكني أعرف أن القمر آفل وهذا معلوم بالحس ، أما الإله ليس بآفل فلا أعلمه ضرورة ولا حسّا.
قلت : وليس غرضي من حكاية هذا الميزان أن أعرفك أن القمر ليس بآفل ، بل إني أعلمك أن هذا الميزان صادق والمعرفة الحاصلة منه بهذا الطريق من الوزن ضرورية ، وإنما حصل العلم به في حق الخليل عليهالسلام. إذ كان معلوما عنده أن الإله ليس بآفل ، وإن لم يكن ذلك العلم أوليّا له بل مستفادا من أصلين آخرين ينتجان العلم بأن الإله ليس بمتغير وكل متغير حادث ، والأفول هو التغير فبني الوزن على المعلوم عنده ، فخذ أنت الميزان واستعمله حيث يحصل لك العلم بالأصلين.
قال : فهمت بالضرورة أن هذا الميزان صادق وأن هذه المعرفة تلزم في الأصلين إذ صارا معلومين ، ولكن أريد أن تشرح حد هذا الميزان وحقيقته ثم تشرح لي عياره من الصنجة المعروفة عندي ثم مثال استعماله في مظان الغموض فإن نفي الإلهية عن القمر كالواضح عندي.
قلت : أما حدّه ، فهو أن كل مثلين وصف أحدهما بوصف فسلب ذلك الوصف عن الآخر