فهما متباينان أي أحدهما يسلب ذلك الوصف عن الآخر ولا يوصف به ، ولما كان حد الميزان الأكبر أن الحكم على الأعمّ حكم على الأخص ويندرج فيه لا محالة ، فحدّ هذا أن الذي ينفى عنه ما يثبت لغيره مباين لذلك الغير ، فالإله ينفى عنه الأفول والقمر يثبت له الأفول ، فهذا يوجب التباين بين الإله والقمر وهو أن لا يكون القمر إلها ولا الإله قمرا. وقد علّم الله تعالى نبيّه محمّدا صلىاللهعليهوسلم الوزن بهذا الميزان في مواضع كثيرة من القرآن اقتداء بأبيه الخليل صلوات الله عليهما ، فأكتفي بالتنبيه على موضعين وأطلب الباقي من آيات القرآن.
أحدهما : قوله تعالى لنبيّه : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) [المائدة: ١٨]. وذلك أنهم ادعوا أنهم أبناء الله فعلمه الله تعالى كيفية إظهار خطابهم بالقسطاس المستقيم ، فقال: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) ، وكمال صورة هذا الميزان أن البنين لا يعذبون وأنتم معذبون ، فإذا لستم أبناء ، فهنا أصلان : أما أن البنين لا يعذبون فيعرف بالتجربة ، وأما أنتم معذبون فيعرف بالمشاهدة ويلزم منهما ضرورة نفي النبوة.
الموضع الثاني : قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [الجمعة : ٦ و ٧]. وذلك أنهم ادعوا الولاية ، وكان من المعلوم أن الوالي يتمنى لقاء وليه ، وكان من المعلوم أنهم لا يتمنون الموت الذي هو سبب اللقاء فلزم ضرورة أنهم ليسوا أولياء لله. وكمال صورة هذا الميزان أن يقال : كل ولي يتمنى لقاء وليه واليهودي ليس يتمنى لقاء الله فلزم منه أنه ليس بولي لله. وحدّه أن التمني يوصف به الولي وينفى عن اليهود فيكون الولي واليهودي متباينين لسلب أحدهما عن الآخر فلا يكون الولي يهوديا ولا اليهودي وليا. وأما عياره من الصنجة المعلومة فما عندي أنك تحتاج إليه مع وضوحه ، ولكن إن أردت استظهارا فانظر أنك إذا عرفت أن الحجر جماد ثم عرفت أن الإنسان ليس بجماد كيف يلزمك منه أن تعرف أن الإنسان ليس بحجر لأن الجمادية تثبت للحجر وتنفى عن الإنسان ، فلا جرم أن يكون الإنسان مسلوبا عن الحجر والحجر مسلوبا عن الإنسان فلا الإنسان حجرا ولا الحجر إنسانا. وأما مظنة استعماله في مواضع الغموض فكثير ، وأحد شطري المعرفة معرفة التقديس وهو ما يتقدس عنه الرب تعالى علوّا كبيرا وجميع معارفه توزن بهذا الميزان إذ الخليل عليهالسلام استعمل هذا الميزان في التقديس ، وعلمنا كيفية الوزن به إذ عرف بهذا الميزان نفي الجسمية عن الله تعالى. وكذلك نقول إن الإله ليس بجوهر متحيز لأن الإله ليس بمعلول وكل متحيز فاختصاصه بحيزه الذي يختصّ به معلول فيلزم منه أنه ليس بجوهر ، وتقول ليس بعرض لأن العرض ليس بحي عالم والإله حيّ عالم فليس بعرض ، وكذلك سائر أبواب التقديس تتولد معرفتها أيضا من ازدواج أصلين على هذا الوجه.
أحدهما : أصل سالب مضمونه النفي.
والثاني : أصل موجب مضمونه الإثبات وتتولد منهما معرفة النفي والتقديس.