القول في الميزان الأصغر
قال : قد فهمت هذا أيضا فهما ضروريا فاشرح لي الميزان الأصغر وحده وعياره ومظنة استعماله من الغوامض.
قلت : الميزان الأصغر تعلمناه من الله تعالى حيث علّمه محمّدا صلىاللهعليهوسلم في القرآن ، وذلك في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) [الأنعام : ٩١]. ووجه الوزن بهذا الميزان تقول قولهم بنفي إنزال الوحي على البشر قول باطل الازدواج المنتج بين الأصلين :
أحدهما : أن موسى عليهالسلام بشر.
والثاني : أن موسى أنزل عليه الكتاب فيلزم منه بالضرورة قضية خاصة وهو أن بعض البشر أنزل عليه الكتاب وتبطل به الدعوى العامة بأنه لا ينزل كتاب على بشر أصلا. أما الأصل الأول وهو قولنا موسى بشر فمعلوم بالحس ، وأما الثاني وهو أن موسى منزل عليه الكتاب فكان معلوما باعترافهم ، إذ كانوا يخفون بعضه ويظهرون بعضه كما قال تعالى : (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١]. وإنما ذكر هذا في معرض المجادلة بالأحسن ، ومن خاصية المجادلة أنه يكفي فيه أن يكون الأصلان مسلمين من الخصم مشهورين عنده ، وإن أمكن الشكّ فيه لغيره فإن النتيجة تلزمه إذ كان هو معترفا به ، وأكثر أدلّة القرآن تجري على هذا الوجه ، فإن صادفت من نفسك إمكان الشك في بعض أصولها ومقدماتها ، فاعلم أن المقصود بها محاجّة من لم يشك فيه. وأما أنت فالمقصود في حقك أن تعلم منه كيفية الوزن في سائر المواضع ، وأما عيار هذا الميزان أن من يقول لا يتصور أن يمشي الحيوان بغير رجل ، فيعلم منك إذا قلت الحية حيوان والحية تمشي بغير رجل فيلزم منه أن بعض الحيوان يمشي بغير رجل ، وأن قول من يقول لا يمشي الحيوان إلّا برجل قول باطل منقوض وأما موضع استعماله من الغوامض فكثير ، فإن بعض الناس مثلا يقول كل كذب فهو قبيح لعينه فنقول من رأى نبيا من الأنبياء أو وليا من الأولياء قد اختفى من ظالم فسأله الظالم عن موضعه فأخفاه فقوله هل هو كذب ، قال : نعم ، قلنا : فهل هو قبيح ، قال : لا بل القبيح الصدق المفضي إلى هلاكه فنقول له : انظر إلى الميزان فإنا نقول قوله في إخفاء محله كذب فهو أصل معلوم ، وهذا القول ليس بقبيح وهو الأصل الثاني ، فيلزم منه أن كل كذب ليس بقبيح فتأمل الآن هل يتصور الشك في هذه النتيجة بعد الاعتراف بالأصلين ، وهل هذا أوضح مما ذكرته من المقدمة التجريبية والحسية بعد الاعتراف بالأصلين ، وهل هذا أوضح مما ذكرته من المقدمة التجريبية والحسية في معرفة ميزان التقديس ، وأما حدّ هذا الميزان فهو أن كل وصفين اجتمعا على شيء واحد فبعض آحاد الوصفين لا بدّ أن يوصف بالآخر بالضرورة ولا يلزم أن يوصف بأنه كله لزوما ضروريا ، بل قد يكون في بعض الأحوال وقد لا يكون فلا يوثق. ألا ترى أن الإنسان يجتمع عليه الوصف بأنه حيوان وأنه جسم فيلزم منه بالضرورة أن بعض الجسم حيوان ولا يلزم