الميزانين السابقين الأولين أنه حي عالم فيلزم منه أنه قائم بنفسه ، وكذلك تعرج من صفة تركيب الآدمي إلى صفة صانعه وهو العلم ، ثم تعرج من العلم إلى الحياة ، ثم منها إلى الذات وهذا هو المعراج الروحاني ، وهذه الموازين سلالم العروج إلى السماء ، ثم إلى خالق السماء وهذه الأصول درجات السلالم وأما المعراج الجسماني ، فلا تفي به كل قوة بل يختص ذلك بقوة النبوة. وأما حدّ هذا الميزان فإن كل ما هو لازم للشيء فهو تابع له في كل حال ، فنفي اللازم يوجب بالضرورة نفي الملزوم ، ووجود الملزوم يوجب بالضرورة وجود اللازم ، أما نفي الملزوم ووجود اللازم فلا نتيجة لهما ، بل هما من موازين الشيطان وقد يزن به بعض أهل التعليم معرفته ، أما ترى أن صحة الصلاة يلزمها لا محالة كون المصلي متطهرا فلا جرم يصح أن تقول إن كانت صلاة زيد صحيحة فهو متطهر ، ومعلوم أنه غير متطهر وهو نفي اللازم فلزم منه أن صلاته غير صحيحة وهو نفي الملزوم ، وكذلك إن قلت : ومعلوم أن صلاته صحيحة وهذا وجود الملزوم فيلزم منه أنه متطهر وهو وجود اللازم ، أما إن قلت : ومعلوم أنه متطهر فيلزم منه أن صلاته صحيحة فهذا خطأ لأنه ربما بطلت صلاته بعلّة أخرى ، فهذا وجود اللازم ولم يدل على وجود الملزوم ، وكذلك إن قلت : ومعلوم أن صلاته ليست بصحيحة فهو إذا كان غير متطهر وهذا خطأ غير لازم لأنه يجوز أن يكون عدم صحة الصلاة لفقدان شرط آخر سوى الطهارة فهذا نفي الملزوم ولم يدل على نفي اللازم.
القول في ميزان التعاند
ثم قال : اشرح لي ميزان التعاند واذكر لي من القرآن موضعه وعياره ومحلّ استعماله.
قلت : أما موضعه من القرآن فقوله في تعليم نبيّه محمّد صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤]. فإنه لم يذكر قوله إنا أو إياكم في معرض التسوية والتشكيك ، بل فيه إضمار أصل آخر وهو لسنا على ضلال في قولنا : إن الله يرزقكم من السماء والأرض فإنه الذي يرزق من السماء بإنزال الماء ، ومن الأرض بإنبات النبات فإذا أنتم ضالون بإنكار ذلك وكمال صورة هذا الميزان إنا أو إياكم لعلى ضلال مبين ، وهذا أصل ، ثم نقول : ومعلوم أنا لسنا في ضلال ، وهذا أصل آخر ، فيلزم من ازدواجهما نتيجة ضرورية وهو أنكم في ضلال. وأما عياره من الصنجات المعروفة فهو أن من دخل دارا ليس فيها إلا بيتان ، ثم دخلنا أحدهما فلم نره فيه فنعلم علما ضروريا أنه في البيت الثاني ، وهذا الازدواج من أصلين : أحدهما قوله إنه في أحد البيتين قطعا ، والثاني أنه ليس في هذا البيت أصلا فيلزم منهما أنه في البيت الثاني ، فإذا نعلم كونه في البيت الثاني تارة بأنه نراه فيه وتارة بأن نرى البيت الثاني خاليا عنه ، فإن علمناه برؤيتنا إياه فيه كان علما عيانيا وإن عرفناه بأن لم نره في البيت الثاني كان هذا علما ميزانيا ، ويكون هذا العلم الميزان قطعيا كالعيان ، وأما حدّ هذا الميزان فهو أن كل ما انحصر في قسمين فيلزم من ثبوت أحدهما نفي الآخر ومن نفي أحدهما ثبوت الآخر ، ولكن بشرط أن تكون القسمة منحصرة لا منتشرة ،