ظاهرها وباطنها ، وجعل فيها مجرى لغذائها ليكون ذلك سببا لبقائها مدة حياتها.
ثم كيف رتب الأعضاء الباطنة من القلب والكبد والمعدة والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل عضو بشكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص ، فجعل المعدة لنضج الغذاء عصبا معينا شديدا لحاجتها وبذلك يمكن تقطيعه وطحنه ، وجعل طحن الأضراس أولا معينا للمعدة على جودة طحنه وهضمه وجعل الكبد لإحالة الغذاء إلى الدم فيجتذب منه كل عضو من الغذاء ما يناسبه ، فغذاء العظم خلاف غذاء اللحم وغذاء العروق خلاف غذاء الأعصاب ، وغذاء الشعر خلاف غذاء غيره ، وجعل الطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد فالطحال لجذب السوداء ، والمرارة لجذب الصفراء ، والكلية المائية عنه والمثانة لقبول الماء عن الكلية ، ثم يخرجه في مجرى الإحليل والعروق والكبد في اتصال الدم منه إلى سائر أطراف البدن ، وجعل جوهرها أتقن من جوهر اللحم ليصونه ويحصره فهي بمنزلة الظروف والأوعية ، ثم انظر كيف دبره في الرحم ولطف به ألطافا يطول شرحها ولا يستكمل العلم بجملتها إلا خالقها ويعجز الواصف عن وصف ما وصل إليه نظره من ذلك ، فمن ذلك جعله فيهما لا يحتاج إلى استدعاء ، ولا يحتاج المولود إلى ما يبين ذلك لا بوعظ ولا تنبيه ، بل ذلك في الطباع إلى وقت حاجة المولود إلى الإغاثة في غذائه ، ولو لا ذلك لنفرت الأمهات عنه من شدة التعب وكلفة التربية حتى اشتد جسمه وقويت أعضاؤه الظاهرة والباطنة لهضم الغذاء ، فحينئذ أنبت له الأسنان عند الحاجة إليها لا قبل ذلك ولا بعده.
ثم انظر كيف خلق الله فيه التمييز والعقل على التدريج إلى حين كماله وبلوغه ، وانظر وفكر في سر كونه يولد جاهلا غير ذي عقل وفهم ، فإنه لو كان ولدا عاقلا فيهما لأنكر الوجود عند خروجه إليه حتى يبقى حيران تائه العقل. إذ رأى ما لا يعرف ، وورد عليه ما لم يره ولم يعهد مثله ، ثم كان يجد غضاضة أن يرى نفسه محمولا وموضوعا معصبا بالخرق ومسجى في المهد مع كونه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حين يولد ، ثم كان لا يوجد له من الرقة له والحلاوة والمحبة في القلوب ما يوجد للصغير لكثرة اعتراضه بعقله واختياره لنفسه ، فتبين أن ازدياد العقل والفهم فيه على التدريج أصلح به. أفلا يرى كيف أقام كل شيء من الخلقة على غاية الحكمة وطريق الصواب وأعلمه تقلب الخطأ في دقيقه وجليله ، ثم انظر فيما إذا اشتد خلق فيه طريقا وسببا للتناسل وخلق في وجهه شعرا ليميزه عن شبه الصبيان والنسوان ويجمله ويستر به غضون وجهه عند شيخوخته ، وإن كانت أنثى أبقى وجهها نقيا من الشعر لتبقى لها بهجة ونضارة تحرك الرجال لما في ذلك من بقاء النسل.
فكر الآن فيما ذكرناه ودبره سبحانه في هذه الأحوال المختلفة ، هل ترى مثل هذا يمكن أن يكون مهلا ، أرأيت لو لم يجر له الدم غذاء وهو في الرحم ألم يكن يذوي ويهلك ويجف كما يجف النبات إذا انقطع عنه الماء. ولو لم يزعجه المخاض عند استكماله ، ألم يكن يهلك ببقائه في الرحم هو وأمه؟ ولو لم يوافه اللبن عند ولادته ، ألم يكن يموت جوعا وعطشا أو يغذى بما لا