يوافق ولا يصلح عليه بدنه؟ ولو لم يخلق له الأسنان في وقتها ، ألم يكن يمتنع عليه مضغ الطعام وازدراده ويقيم على الرضاع ولا يشتد جسمه؟ ولو لم يخرج شعر الوجه لبقي في هيئة النساء والصبيان فلا ترى له هيبة ولا جلالة ولا وقارا ، ومن ذا الذي يرصده حتى يوفيه بكل هذه المآرب في وقتها إلا الذي أنشأه بعد أن لم يكن شيئا مذكورا وتفضل عليه ومنّ عليه بكل هذه النعم.
فكر في شهوة الجماع الداعية لإحيائه ، والآلة الموصلة إلى الرحم النطفة والحركة الموجبة لاستخراج النطفة وما في ذلك من التدبير المحكم ، ثم فكر في جملة أعضاء البدن وتهيئة كل عضو منها للأرب الذي أريد منها فالعينان للاهتداء بالنظر ، واليدان للعلاج والحذف والدفع والرجلان للسعي ، والمعدة لهضم الطعام ، والكبد للتخليص والتمييز ، والفم للكلام ودخول الكلام ودخول الغذاء ، والمنافذ لدفع الفضلات. وإذا تأملت كذلك مع سائر ما في الإنسان وجدته قد وضع على غاية الحكمة والصواب فكر في وصول الغذاء إلى المعدة حتى ينضجه ويبعث صفوه إلى الكبد في عروق دقاق قد جعلت كالمصفاة للغذاء ، ولكيلا يصل إلى الكبد منه شيء غليظ خشن فينكؤها فإنها خلقت دقيقة لا تحمل الغث فتقلبه بإذن الله دما وتنفذ إلى سائر البدن في مجار مهيأة لذلك فيصل إلى كل شيء من ذلك ما يناسبه من يابس ورخو وغير ذلك : (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [غافر : ٦٤]. ثم ينفذ ما يكون من خبث وفضول إلى معابض وأعضاء أعدت لذلك كما ذكرنا قبل هذا ، فكونها كالأوعية تحمل هذه الفضلات لكيلا تنتشر في البدن فتقسمه.
ثم انظر هل تجد في خلق البدن شيئا لا معنى له. هل خلق البصر إلا ليدرك الأشياء والألوان ، فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها ، هل كان في الألوان منفعة؟ ولو لم يكن لخلق الأبصار ، نور خارج عن نورها ما كان ينتفع بالبصر؟ وهل خلق السمع إلا ليدرك الأصوات؟ فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها لم يكن في الأصوات منفعة ، وكذلك سائر الحواس ، فكر في أشياء جعلت بين الحواس والمحسوسات لا يتم الحس إلا بها : منها الضياء والهواء ، فلو لم يكن ضياء تظهر فيه المبصرات لم يدركها البصر ، ولو لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت.
فكّر فيمن عدم البصر والسمع وما يناله من الخلل فإنه لا ينظر أن يضع قدمه ولا يدري ما بين يديه ولا يفرق بين الألوان ولا يدري بهجوم آفة أو عدو ولا سبيل له أن يتعلم أكثر الصناعات ، وأما من عدم السمع فإنه من يفقد روح المخاطبة والمحاضرة ويعدم لذة الأصوات المستحسنة والألحان المطربة وتعظم المئونة على من يخاطبه حتى ينصرم منه ولا يسمع شيئا من أخبار الناس وأحاديثهم حتى يصير كالغائب وهو شاهد ، وكالميت وهو حي ، وأما من عدم العقل فهو أشر من البهائم ، فانظر كيف صارت هذه الجوارح وهذه الأوصاف التي بها صلاح الإنسان محصلة ومبلغة لجميع مآربه ومتممة لجميع مقاصده ، وإذا فقد شيئا اختل أمره وعظم مصابه ، ومن بلي بفقد شيء منها فهو تأديب وموعظة وتعريف بقدر نعمة الله في حقه وحق أمثاله ولينال