ومدبرا ، ومن آخره خزانة وخازنا ، ومن جميع الأجزاء رجالا وركبانا ، ومن الروح الحيواني خادما ، ومن الطبيعي وكيلا ، ومن البدن مركبا ، ومن الدنيا ميدانا ، ومن الحياة بضاعة ومالا ، ومن الحركة تجارة ، ومن العلم ربحا ، ومن الآخرة مقصدا ومرجعا ، ومن الشرع طريقة ومنهجا ، ومن النفس الأمّارة حارسا ونقيبا ، ومن اللوامة منبها ، ومن الحواسّ جواسيس وأعوانا ، ومن الدين درعا ، ومن العقل أستاذا ، ومن الحس تلميذا ، والربّ سبحانه من وراء هذه كلها بالمرصاد ، والنفس بهذه الصفة مع هذه الآلة ما أقبلت على هذا الشخص الكثيف وما اتّصلت بذاته بل تنيله الإفادة ، ووجهها إلى بارئها وأمر بارئها بالاستفادة إلى أجل مسمى ، فالروح لا يشتغل في مدة هذا السفر إلا بطلب العلم لأن العلم يكون حليته في دار الآخرة" لأن حلية المال والبنين زينة حياة الدنيا ، فكما أن العين مشغولة برؤية المنظورات ، والسمع مواظب على استماع الأصوات ، واللسان مستعد لتركيب الأقوال ، والروح الحيواني مريد اللذات الغضبية ، والروح الطبيعي محب للذائذ الأكل والشرب ، كذلك الروح المطمئنة. أعني القلب. لا يريد إلا العلم ولا يرضى إلا به ويتعلم طول عمره. ويتحلّى بالعلم جميع أيامه إلى وقت مفاقته ، ولو قبل أمرا آخر دون العلم فإنما يقبل عليه لمصلحة البدن لا لمراد ذاته ومحبة أصله. فإذا علمت أحوال الروح ودوام بقائه وعشقه للعلم وشغفه به ، فيجب عليك أن تعلم أصناف العلم فإنها كثيرة ونحن نحصيها بالاختصار.
فصل في أصناف العلم وأقسامه
اعلم أن العلم على قسمين : أحدهما شرعي ، والآخر عقلي. وأكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها. وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠].
أما القسم الأول : وهو العلم الشرعي ، فينقسم إلى نوعين :
أحدهما : في الأصول وهو علم التوحيد. وهذا العلم ينظر في ذات الله تعالى وصفاته القديمة ، وصفاته الفعلية ، وصفاته الذاتية المتعدّدة بالأسامي على الوجه المذكور. وينظر أيضا في أحوال الأنبياء والأئمة من بعدهم والصحابة. وينظر في أحوال الموت والحياة وفي أحوال القيامة والبعث والحشر والحساب ، ورؤية الله تعالى وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولا بآيات الله تعالى من القرآن ، ثم بأخبار الرسولصلىاللهعليهوسلم ، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية ، وأخذوا مقدمات القياس الجدلي والعادي ولواحقهما من أصحاب المنطق الفلسفي ، ووضعوا أكثر الألفاظ في غير مواضعها ، ويعبرون في عباراتهم بالجوهر والعرض والدليل والنظر والاستدلال والحجّة ، ويختلف معنى كل لفظ من هذه الألفاظ عند كل قوم حتى أن الحكماء يعنون بالجوهر شيئا ، والصوفية يعنون شيئا آخر ، والمتكلمون شيئا ، وعلى هذا المثال ، وليس المراد في هذه الرسالة تحقيق معاني الألفاظ على حسب آراء القوم ، فلا نسرع فيها. وهؤلاء القوم مخصوصون بالكلام في الأصول وعلم التوحيد ولقبهم المتكلمون ، فإن اسم الكلام اشتهر على علم التوحيد. ومن علم الأصول