ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٧ و ٢٨]. وأمر الباري تعالى ليس بجسم ولا عرض ، بل قوة إلهية مثل العقل الأول واللوح والقلم ، وهي الجواهر المفردة المفارقة للمواد بل هي أضواء مجردة معقولة غير محسوسة ، والروح والقلب بلساننا من قبل تلك الجواهر ، ولا يقبل الفساد ولا يضمحل ولا يفنى ولا يموت ، بل يفارق البدن وينتظر العود إليه في يوم القيامة كما ورد في الشرع وقد صحّ في العلوم الحكمية بالبراهين القاطعة ، والدلائل الواضحة أن الروح الناطق ليس بجسم ولا عرض ، بل هو جوهر ثابت دائم غير فاسد ، ونحن نستغني عن تكرير البرهان وتعديد الدلائل لأنها مقررة مذكورة. فمن أراد تصحيحها فليرجع إلى الكتب اللائقة بذلك الفن. فأما في طريقنا فلا يتأتى بالبرهان بل نعول على العيان ونعتمد على رؤية الإيمان ، ولما أضاف الله تعالى الروح إلى أمره وتارة إلى عزته ، فقال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩ ص : ٧٢]. وقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وقال : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢]. والله تعالى أجلّ من أن يضيف إلى نفسه جسما أو عرضا لخستهما وتغيرهما وسرعة زوالهما وفسادهما ، والشارع صلىاللهعليهوسلم قال : " الأرواح جنود مجنّدة" ، وقال : " أرواح الشّهداء في حواصل طيور خضر" ، والعرض لا يبقى بعد فناء الجوهر لأنه لا يقوم بذاته ، والجسم يقبل التحليل ، كما قيل : التركيب من المادة والصورة كما هو مذكور في الكتب ، فلما وجدنا هذه الآيات والأخبار والبراهين العقلية علمنا أن الروح جوهر فرد كامل حي بذاته يتولد منه صلاح الدين وفساده ، والروح الطبيعي والحيواني وجميع القوى البدنية كلها من جنوده ، وأن هذا الجوهر يقبل صور المعلومات وحقائق الموجودات من غير اشتغال بأعيانها وأشخاصها ، فإن النفس قادرة على أن تعلم حقيقة الإنسانية من غير أن ترى إنسانا كما أنها علمت الملائكة والشياطين ، وما احتاجت إلى رؤية أشخاصها إذ لا ينالهما حواس أكثر الناس ، وقال قوم من المتصوفة إن للقلب عينا كما للجسد ، فيرى الظواهر بالعين الظاهرة ، ويرى الحقائق بعين العقل ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : " ما من عبد إلا ولقلبه عينان" ، وهما عينان يدرك بهما الغيب ، فإذا أراد الله تعالى بعبد خيرا فتح عيني قلبه ليرى ما هو غائب عن بصره ، وهذا الروح لا يموت بموت البدن لأن الله تعالى يدعوه إلى بابه فيقول : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨]. وإنما هو يفارق ويعرض عن البدن ، فمن أعراضه تتعطل أحوال القوى الحيوانية والطبيعية فيسكن المتحرك فيقال لذلك السكون : موت ، وأهل الطريقة. أعني الصوفية. يعتمدون على الروح والقلب أكثر اعتمادا منهم على الشخص. وإذا كان الروح من أمر الباري تعالى فيكون في البدن كالغريب ، ويكون وجهه إلى أصله ومرجعه. فينال الفوائد من جانب الأصل أكثر مما ينال من جهة الشخص إذا قوي ولم يدنس بأدناس الطبيعة. وإذا علمت أن الروح جوهر فرد وعلمت أن الجسد لا بدّ له من المكان. والعرض لا يبقى إلا بالجوهر. فاعلم أن هذا الجوهر لا يحلّ في محل ولا يسكن في مكان ، وليس البدن مكان الروح ولا محلّ القلب ، بل البدن آلة الروح وأداة القلب ومركب النفس. والروح ذاته غير متّصل بأجزاء البدن ولا منفصل عنه ، بل هو مقبل على البدن مفيد له مفيض عليه ، وأوّل ما يظهر نوره على الدماغ لأن الدماغ مظهره الخاص اتّخذ من مقدمه حارسا. ومن وسطه وزيرا