بأجزاء الرماد ، ومهد قاعدته وسوّى أركانه وعين أطرافه وأظهر جوهر النفس من أمره الواحد الكامل المكمل المفيد. ولا أعني بالنفس القوة الطالبة للغذاء ، ولا القوة المحرّكة للشهوة والغضب ، ولا القوة الساكنة في القلب المولدة للحياة ، والمبرزة للحسّ والحركة من القلب إلى جميع الأعضاء ، فإن هذه القوة تسمى روحا حيوانيا ، والحس والحركة والشهوة والغضب من جنده ، وتلك القوة الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد بالتصرف يقال لها روحا طبيعيا ، والهضم والدافع من صفاتها ، والقوة المصورة والمولدة والنامية وباقي القوى المنطبعة كلها خدام للجسد ، والجسد خادم الروح الحيواني لأنه يقبل القوى عنه ويعمل بحسب تحريكه وإنما أعني بالنفس ذلك الجوهر الكامل الفردي الذي ليس من شأنه إلا التذكر والتحفظ والتفكر والتمييز والروية ، ويقبل جميع العلوم ولا يملّ من قبول الصور المجردة المعراة عن المواد وهذا الجوهر رئيس الأرواح وأمير القوى ، الكل يخدمونه ويمتثلون أمره وللنفس الناطقة أعني هذا الجوهر عند كل قوم اسم خاص ، فالحكماء يسمون هذا الجوهر النفس الناطقة ، والقرآن تسمية النفس المطمئنة والروح الأمري ، والمتصوفة تسميه القلب ، والخلاف في الأسامي والمعني واحد لا خلاف فيه. فالقلب والروح عندنا ، والمطمئنة كلها أسامي النفس الناطقة ، والنفس الناطقة ، هي الجوهر الحيّ الفعال المدرك ، وحيثما نقول الروح المطلق أو القلب فإنما نعني به هذا الجوهر ، والمتصوفة يسمون الروح الحيواني نفسا. والشرع ورد بذلك ، فقال: " أعدى عدوّك نفسك". وأطلق الشارع اسم النفس بل أكدها بالإضافة ، فقال : " نفسك الّتي بين جنبيك". وإنما أشار بهذه اللفظة إلى القوة الشهوانية والغضبية فإنهما ينبعثان عن القلب الواقف بين الجنبين ، فإذا عرفت فرق الأسامي ، فاعلم أن الباحثين يعبرون عن هذا الجوهر النفيس بعبارات مختلفة ، ويرون فيه آراء متفاوتة ، والمتكلمين المعرفين بعلم الجدل يعدون النفس جسما ، ويقولون إنه جسم لطيف بإزاء هذا الجسم الكثيف ، ولا يرون الفرق بين الروح والجسد إلا باللطافة والكثافة وبعضهم يعدّ الروح عرضا ، وبعض الأطباء يميل إلى هذا القول ، وبعضهم يرى الدم روحا وكلهم قنعوا بقصور نظرهم على تخيلهم وما طلبوا القسم الثالث ، واعلم أن الأقسام ثلاثة : الجسم والعرض والجوهر الفرد ، فالروح الحيواني جسم لطيف كأنه سراج مشعل موضوع في زجاجة القلب أعني ذلك الشكل الصنوبري المعلق في الصدر ، والحياة ضوء السراج والدم رهنه ، والحس والحركة نوره ، والشهوة حرارته ، والغضب دخانه ، والقوة الطالبة للغذاء الكائنة في الكبد خادمه وحارسه ووكيله. وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات ، والإنسان هو جسم وآثاره أعراض ، وهذا الروح لا يهتدي إلى العلم ولا يعرف طريق المصنوع ولا حق الصانع ، وإنما هو خادم أسير يموت بموت البدن ، لو يزيد الدم ينطفئ ذلك السراج بزيادة الحرارة ، ولو ينقص ينطفئ بزيادة البرودة وانطفاؤه سبب موت البدن ، وليس خطاب الباري سبحانه ولا تكليف الشارع لهذا الروح لأن البهائم وسائر الحيوانات غير مكلفين ولا مخاطبين بأحكام الشرع ، والإنسان إنما يكلف ويخاطب لأجل معنى آخر وجد عنده زائدا خاصا به ، وذلك المعنى هو النفس الناطقة والروح المطمئنة ، وهذا الروح ليس بجسم ولا عرض لأنه من أمر الله تعالى كما قال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*