وغمامها رقيقا ومزاجها صحيحا ، فلا تحتاج إلى زيادة تعلم وطول تعب بل يكفيها أدنى نظر وتفكر لأنها ترجع به إلى أصلها ، وتقبل على بدايتها وحقيقتها وتطلع على مخفياتها فيخرج ما فيها من القوة إلى الفعل ويصير ما هو مركوز فيها حلية لها فيتم أمرها ويكمل شأنها وتعلم أكثر الأشياء في أقل الأيام وتعبر عن المعلومات بحسن النظام ، وتصير عالمة كاملة متكلمة تستضيء بإقبال على النفس الكلية وتفيض باستقبال على النفس الجزئية وتتشبه من طريق العشق بالأصل. وتقطع عرق الحسد وأصل الحقد وتعرض عن فضول الدنيا وزخارفها ، وإذا وصلت إلى هذه المرتبة فقد علمت ونجت وفازت ، فهذا هو المطلوب لجميع الناس.
فصل في حقيقة العلم اللدني وأسباب حصوله
اعلم أن العلم اللدني وهو سريان نور الإلهام يكون بعد التسوية كما قال الله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) [الشمس : ٧]. وهذا الرجوع يكون بثلاثة أوجه :
أحدها : تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها.
والثاني : الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة ، فإن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أشار إلى هذه الحقيقة ، فقال : " من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم". وقال صلىاللهعليهوسلم : " من أخلص لله أربعين صباحا أظهر الله تعالى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".
والثالث : التفكر ، فإن النفس إذا تعلمت وارتاضت بالعلم ثم تتفكر في معلوماتها بشروط الفكر ينفتح عليها باب الغيب كالتاجر الذي يتصرف في ماله بشرط التصرف ينفتح عليه أبواب الربح ، وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران ، فالمتفكر إذا سلك سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب ، وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيّدا ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : " تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة". وشرائط التفكر نحصيها في رسالة أخرى إذ بيان التفكر وكيفيته وحقيقته أمر مبهم يحتاج إلى زيادة شرح وتفسير بعون الله تعالى. والآن نختم هذه الرسالة ، فإن في هذه الكلمات كفاية لأهلها : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠]. والله وليّ المؤمنين وعليه التكلان ، وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم ، وبه ثقتي في كل آن وحين والحمد لله ربّ العالمين.