بسم الله الرّحمن الرّحيم
خطبة الرسالة
قال الإمام العالم العامل أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي رحمة الله عليه : أحمد الله تعالى استسلاما لعزّته واستتماما لنعمته ، واستغناما لتوفيقه ومعونته وطاعته ، واستعصاما من خذلانه ومعصيته ، واستدرارا لسوابغ نعمته وأصلي على محمّد عبده ورسوله وخير خليقته ، انقيادا لنبوته ، واستجلابا لشفاعته ، وقضاء لحقّ رسالته ، واعتصاما بيمين سريرته ونقيته ، وعلى آله وأصحابه وعترته.
أما بعد : فإني رأيتك أيها الأخ المشفق ، والصديق المتعصب موغر الصدر ، منقسم الفكر لما فرغ سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملات الدين ، وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين ، والمشايخ المتكلمين ، وأن العدول عن مذهب الأشعري ولو في قيد شبر كفر ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر ، فهوّن أيها الأخ المشفق المتعصب على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ، واستحقر من لا يحسد ولا يقذف ، واستصغر من بالكفر أو الضلال لا يعرف فأي داع أكمل وأعقل من سيّد المرسلين صلىاللهعليهوسلم ، وقد قالوا : إنه مجنون من المجانين ، وأيّ كلام أجلّ وأصدق من كلام ربّ العالمين ، وقد قالوا : إنه أساطير الأوّلين ، وإياك أن تشتغل بخصامهم وتطمع في إفحامهم فتطمع في غير مطمع ، وتصوت في غير مسمع ، أما سمعت ما قيل :
كلّ العداة قد ترجى سلامتها |
|
إلّا عداوة من عاداك عن حسد |
ولو كان فيه مطمع لأحد من الناس ، لما تلي على أجلهم رتبة آيات اليأس ، أو ما سمعت قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥]. وقوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٤ و ١٥]. وقوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام : ٧]. وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام : ١١١]. واعلم أن الفكر والإيمان وحدهما ، والحقّ والضلال وسرهما ، لا ينجلي للقلوب المدنسة بطلب الجاه والمال وحبهما ، بل إنما ينكشف دون ذلك لقلوب طهرت عن وسخ أوضار الدنيا أولا ، ثم صقلت بالرياضة الكاملة ثانيا ، ثم نورت بالذكر الصافي ثالثا ، ثم عذبت بالفكر الصائب رابعا ، ثم زينت بملازمة حدود الشرع خامسا ،