حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة ، وصارت كأنها مرآة مجلوّة ، وصار مصباح الإيمان في زجاجة قلبه مشرق الأنوار ، يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار. وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم ومعبودهم سلاطينهم ، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم ، وشريعتهم رعونتهم ، وإرادتهم جاههم وشهواتهم ، وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم ، وذكرهم وساوسهم ، وكنزهم سواسهم ، وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم ، فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان ، أبإلهام إلهي ولم يفرغوا القلوب عن كدورات الدنيا لقبولها أم بكمال علمي ، وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النجاسة وماء الزعفران وأمثالهما؟ هيهات هيهات هذا المطلب أنفس وأعز من أن يدرك بالمنى ، أو ينال بالهوينا؟ فاشتغل أنت بشأنك ولا تضيع فيهم بقية زمانك : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا* ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) [النجم : ٢٩ و ٣٠].
فصل في حقيقة الكفر والإيمان
فأما أنت إن أردت أن تنتزع هذه الحسكة من صدرك ، وصدر من هو في حالك ، ممن لا تحركه غواية الحسود ، ولا تقيده عماية التقليد ، بل تعطشه إلى الاستبصار لحزازة إشكال آثارها فكر ، وهيجها نظر ، فخاطب نفسك وصاحبك وطالبه بحدّ الكفر فإن زعم أن حد الكفر ما يخالف مذهب الأشعري أو مذهب المعتزلي أو مذهب الحنبلي أو غيرهم فاعلم أنه غير بليد ، قد قيّده التقليد فهو أعمى من العميان ، فلا تضيع بإصلاحه الزمان ، وناهيك حجّة في إفحامه ، مقابلة دعواه بدعوى خصومه ، إذ لا يجد بين نفسه وبين سائر المقلدين المخالفين له فرقا وفصلا ، ولعل صاحبه يميل من سائر المذاهب إلى الأشعري ، ويزعم أن مخالفته في كل ورد وصدر كفر من الكفر الجلي ، فاسأله من أين يثبت له أن يكون الحق وفقا عليه حتى قضى بكفر الباقلاني إذ خالفه في صفة البقاء لله تعالى ، وزعم أنه ليس هو وصفا لله تعالى زائدا على الذات ولم صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني؟ ولم صار الحقّ وفقا على أحدهما دون الثاني؟ أكان ذلك لأجل السبق في الزمان؟ فقد سبق الأشعري غيره من المعتزلة فليكن الحق للسابق عليه! أم لأجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فبأي ميزان ومكيال قدر درجات الفضل حتى لاح له أن لا أفضل في الوجود من متبوعه ومقلده؟ فإن رخص للباقلاني في مخالفته فلم حجر على غيره؟ وما الفرق بين الباقلاني والكرابيسي والقلانسي وغيرهم؟ وما مدرك التخصيص بهذه الرخصة؟ وإن زعم أن خلاف الباقلاني يرجع إلى لفظ لا تحقيق وراءه كما تعسف بتكلفه بعض المتعصبين زاعما أنهما جميعا متوافقان على دوام الوجود ، والخلاف في أن ذلك يرجع إلى الذات أو إلى وصف زائد عليه خلاف قريب لا يوجب التشديد ، فما باله يشدد القول على المعتزلي في نفيه الصفات وهو معترف بأن الله تعالى عالم محيط بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات ، وإنما يخالف الأشعري في أنه عالم وقادر بالذات أو بصفة زائدة ، فما الفرق بين الخلافين ، وأي مطلب أجل وأخطر من صفات الحقّ سبحانه وتعالى في النظر في نفيها وإثباتها؟ فإن قال : إنما أكفّر المعتزلي