المهيأ لقضاء حاجة الإنسان في أستر موضع من جسده مغيب فيه تلتقي عليه فخذاه بما عليهما من اللحم فتواريه به ويخفي ذكره ، وذلك مخصوص بالإنسان لشرفه ، ثم انظر في خلق الشعر والأظفار لما كانا يطولان ، وفي تقصيرهما مصلحة جعلا عديمي الحس حتى لا ينال الإنسان ألم عند التزيين بقصهما ، ولو لا هذه الحكمة لكان بين أمرين : إما أن يدعهما على حالهما فيتشوه خلقه ، أو يزيل ذلك فيتألم بإزالته ، ثم تفكر في الشعور لو نبتت في العين لأعمت البصر ، أو في الفم لنغصت الأكل والشرب ، أو في راحة الكف لنفدت لذة اللمس وبعض الأعمال ، أو في الفرج لكدرت لذة الجماع مع قبول هذه المواضع لنباتها فيها. فسبحان المدبر المنعم بهذه النعم.
فانظر كيف تصد بهذا الخلق طريق الصواب وتجنب الخطأ والضرر ثم فيما جبل عليه الإنسان من الاحتياج إلى المطعم والنوم والجماع وما في ذلك من التدبير المحكم. فقد جعل في طبعه محركا يقتضيه ويستحثه. فالجوع والعطش يقتضي طلب الطعام الذي به حياته ، وكذلك الشراب الذي به قوامه والنوم فيه راحة البدن وعموم القوى ، والشبق يقتضي الجماع الذي به دوام النسل وبقاؤه ، فلو كان الإنسان إنما يتناول الطعام والشراب لمعرفته بالحاجة إليه ولم يجد من طباعه ما يلجئه إليه لاشتغل بأسباب ضرورته فينحل قواه ويهلك كما أنه قد يحتاج إلى دواء يكرهه ، وفيه صلاحه وليس في جبلته داعية له فيدافع عن تناوله فيمرض أو يموت فكذلك لو كان يفعل النوم ويدخله على جسمه باختياره لتشاغل عنه ببعض مهماته فيهلك جسمه بالتعب والنصب. وكذلك لو كان إقدامه على الجماع إنما هو لرغبة حصول الولد لانقطع النسل لما يعارضه من الأسباب المشغلة. فانظر كيف جعل فيه بالطبع ما يضطره إلى حصول هذه الفوائد. انظر كيف رتبت هذه القوى بهذا الترتيب المحكم العجيب. فصار البدن بما فيه بمنزلة دار لملك فيها حشم وقوم موكلون بالدار فواحد لإمضاء حوائج الحشم وإيراد ماء لهم ، وآخر لقبض ما يرد خزنه إلى أن يعالج ويهيأ ، وآخر لإصلاح ذلك وتهيئته وإصلاحه أخص مما قبل ، وآخر لكسح ما في الدار من الأقذار وإخراجه ، فالملك في هذا المثل هو الخالق العليم سبحانه. والدار هي البدن ، والحشم هي الأعضاء ، والقوم في هذه القوى الأربع التي هي النفس وموقعها من الإنسان بمعنى الفكر والوهم والعقل والحفظ والغضب وغير ذلك. أرأيت لو نقص من الإنسان من هذه الصفات الحفظ وحده كيف يكون حاله ، وكان لا يحفظ ما له وما عليه وما أصدر وما أورد وما أعطى وما أخذ وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ولا من أساء له ولا من نفعه ممن ضره. وكان لا يهتدي لطريق ولو سلكه ، ولا لعلم ولو درسه ، ولا ينتفع بتحريره ، ولا يستطيع أن يعتبر بمن مضى ، فانظر إلى هذه النعم كيف موقع الواحدة منها ، فكيف جميعها وأعجب من نعمة الحفظ نعمة النسيان. فلو لا النسيان ما سلا الإنسان عن مصيبة فكان لا ينقص له حسرة ولا يذهب عنه حقد ولا يستمتع بشيء من لذات الشهوات الدنيوية مع تذكر الآفات والفجائع المغضبات ، وكان لا يمكن أن يتوقع غفلة من ظالم ولا فترة ولا ذهولا من حاسد أو قاصد مضرة. فانظر كيف جعل الله فيه