سبحانه الحفظ والنسيان وهما متضادان ، وجعل للإنسان في كل منهما ضروبا من المصالح.
ثم انظر إلى ما خصه به دون غيره من الحيوان من الحياء ، فلولاه لم تقل العثرات ولم تقض الحاجات ولم يقر الضيف ولم يثمر الجميل فيفعل ولا يتجافى عن القبيح فيترك حتى أن كثيرا من الأمور الواجبة ، إنما تفعل لسبب الحياء من الناس ، فترد الأمانات وتراعى حقوق الوالدين وغيرهما ، ويعف عن فعل الفواحش إلى غير ذلك من أجل الحياء ، فانظر ما أعظم موقع هذه النعمة في هذه الصفة ، وانظر ما أنعم الله به من النطق الذي يميز به عنه البهائم فيعبر بما في ضميره ويفهم عن غيره ما في نفسه ، وكذلك نعمة الكتابة التي تفيد أخبار الماضين للباقين ، وأخبار الباقين للآتين ، وبها تخلد في الكتب العلوم والآداب ، ويعلم الناس ذكر ما يجري بينهم في الحساب والمعاملات ، ولو لا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض ، ودرست العلوم وضاعت الفضائل والآداب وعظم الخلل الداخل على الناس في أمورهم بسبب عدمها.
فإن قلت : إن الكلام والكتابة مكتسبة للإنسان وليست بأمر طبيعي ، ولذلك تختلف الخطوط بين عربي وهندي ورومي إلى غير ذلك وكذلك الكلام هو شيء يصطلح عليه ، فلذلك اختلف.
قلنا : ما به تحصل الكتابة من اليد والأصابع والكف المهيأ للكتابة والذهن والفكر الذي يهتدي به ليس بفعل الإنسان ، ولو لا ذلك لم يكن ليكتب أبدا ، فسبحان المنعم عليه بذلك ، وكذلك لو لا اللسان والنطق الطبيعي فيه والذهن المركب فيه لم يكن ليتكلم أبدا ، فسبحان المنعم عليه بذلك.
ثم انظر إلى حكمة الغضب المخلوق فيه يدفع عن نفسه به ما يؤذيها ، وما خلق فيه من الحسد فبه يسعى في جلب ما ينتفع به غير أنه مأمور بالاعتدال في هذين الأمرين ، فإن جاوز الحد فيهما التحق برتبة الشياطين ، بل يجب أن يقتصر في حالة الغضب على دفع الضرر ، وفي الحسد على الغبطة وهي إرادة ما ينفعه من غير مضرة تلحق غيره ، ثم انظر ما أعطى وما منع مما فيه أيضا صلاحه ، فمن ذلك الأمل فبسببه تعمر الدنيا ويدوم النسل ليرث الضعفاء عن الأقوياء منافع العمارة ، فإن الخلق أول ما يخلق ضعيف فلو لا أنه يجد آثار قوم أحلوا وعمروا لم يكن له محل يأوي إليه ولا آلة ينتفع بها ، فكان الأمل سببا لعمل الحاضرين ما يقع به انتفاع الآتين ، وهكذا يتوارث إلى يوم الدين ، ومنع الإنسان من علم أجله ومبلغ عمره لمصلحة ، فإنه لو علم مدة حياته وكانت قصيرة لم تهن الحياة ولم ينشرح لوجود نسل ولا لعمارة أرض ولا لغير ذلك ، ولو علمها وكانت طويلة لا نهمك في الشهوات وتعدى الحدود واقتحم المهلكات ، ولعجز الوعاظ عن إيقافه وزجره عما يؤديه إلى إتلافه فكان في جهله بمدة عمره مصلحة حصول الخوف بتوقع هجوم الموت ، ومبادرة صالح الأعمال قبل الفوات.
ثم انظر إلى ما ينتفع به مما فيه مصالحه وملاذه من أصناف الأطعمة على اختلاف طعومها ، وأصناف الفواكه مع اختلاف ألوانها وبهجتها ، وأصناف المراكب ليركبها ويحصل منافعها وطيور يلتذ بسماعها ، ونقود وجواهر يقتنيها ويصل بها إلى أغراضه ويجدها في مهماته ، وعقاقير