يستعملها لحفظ صحته ، وبهائم لمأكله ولغير ذلك من أموره من حرث وحمل وغير ذلك وأزهار وغيرها من العطريات يتنعم بروائحها وينتفع بها ، وأصناف من الملابس على اختلاف أجناسها وكل ذلك ثمرة ما خلق فيه من العقل والفهم ، فانظر ما ذا ركب الله فيه من العجائب. ومن الحكمة البالغة اختلاف العباد في تملك ما ينتفع به بنو آدم ليتميز منهم الفقير من الغني ، فيكون ذلك سببا لعمارة هذه الدار ويشتغل الناس بسبب ذلك عما يضرهم في غالب الأحوال. فمثالهم فيما اشتغلوا به مثال الصبي فإنه يشتغل لنقص عقله فيما يضر به نفسه ولا يتفرغ فيكون فراغه وبالا عليه ، وكم عسى أن يعد العاد من الحكم واللطائف التي يقصد بها قوام العالم وعبادته إلى الأجل المعلوم وهي مما لا تدخل تحت حد ولا يحصرها عد ، ولا يعلم منتهى حقائقها وإحصاء جملتها إلا الحكيم العليم الذي وسعت رحمته وعلمه كل شيء وأحصى كل شيء عددا.
خاتمة لهذا الباب
اعلم أن الباري سبحانه وتعالى شرف هذا الآدمي وكرمه ، فقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٧٠].
فكان من أعظم ما شرفه به وكرمه العقل الذي تنبه به على البهجة وألحقه بسببه بعالم الملائكة ، حتى تأهل به لمعرفة بارئه ومبدعه بالنظر في مخلوقاته واستدلالا له على معرفة صفاته بما أودعه في نفسه من حكمة وأمانة ، قال الله العظيم : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: ٢١]. فكان نظره في نفسه ، وفيما أودع الباري سبحانه فيه من العقل الذي يقطع بوجوده فيه ويعجز عن وصفه من أعظم الدلالات عنده على وجود بارئه ومدبره وخالقه ومصوره ، فإنه ينظر في العقل كيف فيه التدبير وفنون العلم ومستمر المعرفة وبصائر الحكمة والتمييز بين النفع والضر ، وهو مع القطع بوجوده لا يرى له شخصا ولا يسمع له حسا ولا يحس له مجلسا ولا يشم له ريحا ولا يدرك له صورة ولا طعما ، وهو مع ذلك آمر ومطاع زيادة وراج ومفكر ومشاهد الغيوب ومتوهم للأمور اتسع له ما ضاق عن الأبصار ووسع له ما ضاقت عنه الأوعية يؤمن بما غيبته حجب الله سبحانه مما بين سماواته وما فوقها وأرضه وما تحتها ، حتى كأنه شاهد أبين من رأي العين فهو موضع الحكمة ومعدن العلم كلما ازداد علما ازداد سعة وقوة يأمر الجوارح بالتحرك فلا يكاد أن يميز بين الهمة بالحركة ، وبين التحرك بسرعة الطاعة أيهما أسبق. وإن كانت الهمة قبل وهو مع تدبيره وعلمه وحكمته عاجز عن معرفة نفسه إذ لا يمكنه أن يصف نفسه بنفسه بصفة وهيئة أكثر من الإقرار بأنه مسلم للذي وصفه للعلم به ، ومقر بالجهل بنفسه وهو مع جهله بنفسه عالم حكيم يميز بين لطائف التدبير ، ويفرق بين دقائق الصنع ، وتجري الأمور على اختلافها ، فدل جهله بنفسه وعلمه بما يدبر ويميز أنه مركب مصنوع مصور مدبر مقهور ، لأنه مع حكمته واتقاد بصيرته عاجز مهين يريد أن يذكر الشيء فينساه ويريد أن ينساه فيذكره ، ويريد أن