يسير فيحزن ، ويريد أن يغفل فيذكر ، ويريد أن يتنبه ويتيقظ فيسهو ويغفل دلالة على أنه مغلوب مقهور وهو مع ما علم جاهل بحقائق ما علم ، ومع ما دبر لا يدري كم مدى مبلغ صوته ولا كيف خروجه ولا كيف اتساق حروف كلامه ، ولا كم مدى مبلغ نظره ، ولا كيف ركب نوره ولا كيف أدرك الأشخاص ، ولا كم قدر قوته ولا كيف تركبت إرادته وهمته؟ فاستدل بعلمه وجسده عن حقيقة ما علم أنه مصنوع بصنعة متقنة وحكمة بالغة تدل على الصانع الخالق المريد العليم عزوجل ، ثم إنه خلق في الإنسان الهوى موافقا لطباعه فإن استعمل نور العقل فيما أمر به ورد مورد السلامة وفاز غدا بدار الكرامة ، وإن استعمله في أغراض نفسه وهواها حجب عن معرفة أمور لا يدركها غيره مع ما هو متوقع له في الدار الآخرة من الثواب والحجاب والعقاب ، وهو الآلة له في عمل الصنائع وتقديرها على نحو ما قدرها ودبرها في ذهنه وتخيله واستنباط ما يستنبط بدقيق الفكر ومعرفة مكارم الأخلاق الموجودة في كل أمة زمان ، واستحسان ما يحسن في عوائد العقلاء والفضلاء وتقبيح ما يقبح عندهم بحكم الاعتياد ، فانظر ما شرف هذا الإنسان أن خلق فيه ما يفيده هذه المعارف ، فإن الأواني تشرف بشرف ما يوضع فيها ، ولما كانت قلوب العباد هي محل للمعرفة بالله سبحانه شرفت بذلك ، ولما سبق في علم البارئ سبحانه وإرادته وحكمته بمصير الخلق إلى دار غير هذه الدار ولم يجعل في قوة عقولهم ما يطلعون به على أحكام تلك الدار ، بل كمل لهم سبحانه هذا النور الذي وهبهم إياه بنور الرسالة إليهم ، فأرسل الأنبياء صلوات الله عليهم مبشرين لأهل طاعته ومنذرين لأهل معصيته ، فمدهم بالوحي وهيأهم لقبوله وتلقيه ، فكانت أنوار ما جاء به الوحي من عند الله بالنسبة إلى نور العقل كالشمس بالإضافة إلى نور النجم ، فدلوا العباد على مصالح دنياهم فيما لا تستقل بإدراكه عقولهم وأرشدوهم إلى مصالح أخراهم التي لا سبيل للعباد أن يعرفوها إلا بواسطتهم ، وأظهر لهم سبحانه من الدلائل على صدق ما جاءوا به ما أوجب الإذعان والانقياد لصدق أخبارهم ، فتمت بذلك نعمة الله على عباده ، وظهرت كرامته وثبت حجته عليهم ، فانظر ما أشرف الآدمي ونسله الذين ظهرت منهم هؤلاء الفضلاء الذين هم قابلون لهذه الزيادات الفاضلة ، ثم تضافرت أنواع الشرائع التي هي كالشمس ، وأنوار العقول التي هي كالنجم. فتمت سعادة من سبق له من الله الحسنى ، وشقاوة من كذب ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، ثم إن الله تبارك وتعالى منّ على الإنسان بأن خصه برؤيا يراها في منامه أو في عينه كشبه المنام يمثل له فيها بأمثلة معهودة من جنس ما يعرفه وهي مبشرة أو منذرة له لما يتوقعه بين يديه ، كل ذلك مواهب وكرامات من وجود الله سبحانه ، وجعل الله استقامته على الطاعة في قلبه وجوارحه سببا لصدقها في غالب الأمر ليتعظ أو يقدم على الأمور أو يحجم عنها ، وهي الأمور التي انفرد الله بعلم العاقبة فيها وأطلع على بعض الأمور منها من شاء.
باب في حكمة خلق الطير
قال الله سبحانه وتعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا