اللهُ) [النحل : ٧٩]. اعلم رحمك الله : أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفة للطيران ولم يخلق فيه ما يثقله ، وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه ، فقسم لكل عضو منه ما يناسبه ، فإن كان رخوا أو يابسا أو بين ذلك انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به ، فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه واسعة الأسفل ليثبت في موطن على الأرض وهي خف فيه أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه ، وجعل جلد ساقيه غليظا متقنا جدا ليستغني به عن الريش في الحر والبرد ، وكان من الحكمة خلقه على هذه الصفة لأنه في رعيه ، وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر بباله وتلويثه فأغناه سبحانه عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصا للطيران ، وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها إذ لو طالت رجلاه وقصر عنقه لم يمكنه الرعي لا في البراري ولا في البحار حتى ينكب على صدره وكثيرا ما يعان بطول المنقار أيضا مع طول العنق ليزداد مطلبه عليه سهولة ، ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه ، وخلق صدره ودائره ملفوفا مربيا على عظم كهيئة نصف دائرة حتى يخرق في الهواء بغير كلفة وكذلك رءوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران وجعل لكل جنس من الطير منقارا يناسب رعيه ويصلح لما يتغذى به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك ، فمنه مخلب للتقطيع خص به الكواسر ، وما قوته اللحم ، ومنه عرض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقا محكما ، ومنه معتدل اللقط وآكل الخضر ، ومنه طويل المنقار للحصر وجعله صلبا شديدا شبه العظم وفيه ليونة ما هي في العظم لكثرة الحاجة إلى استعماله وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان ، وقوى سبحانه أصل الريش ، وجعله قصبا منسوبا فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة لأجل كثرة الطيران ، ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش ، وجعل ريشه ووقاية مما يضره من حر أو برد ومعونة متخللة الهواء للطيران وخص الأجنحة بأقوى الريش وأنبته وأتقنه لكثرة دعاء الحاجة إليه ، وجعل في سائر بدنه ريشا غيره كسوة ووقاية وجمالا له وثبت أصل جميعه لأنه جبيرته وجمله ، وجعل في ريشه من الحكمة أن البلل لا يفسده والأدران لا توسخه. فإن أصابه ماء كان أيسر انتفاض يطرد عنه بلله فيعود إلى خفته ، وجعل له منفذا واحدا للولادة وخروج فضلاته لأجل خفته ، وخلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه ، فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يمينا وشمالا. فكان له بمنزلة رجل السفينة الذي يعدل بها سيرها وخلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته.
ولما كان طعامه يبتلعه بلعا بلا مضغ جعل لبعضه منقارا صلبا يقطع به اللحم ويقوم له مقام ما يقطع بالمدية ، وصار يزدرد ما يأكله صحيحا وأعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحنا يستغني به عن المضغ وثقل الأسنان ، واعتبر ذلك بحب العنب وغيره فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحا وينسحق في أجواف الطير ، ثم إنه خلقه يبيض ولا يلد لئلا يثقل عن