الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية.
واعلم أن الآخرة قريب من الدنيا فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة وسلامة أو في حالة يغبطها إذ لو خيّر بينها وبين الإماتة والإعدام مثلا لاختارها ، وإنما المعذب الذي يتمنى الموت نادر ، فكذلك المخلدون في النار بالإضافة إلى الناجين والمخرجين منها في الآخرة نادر ، فإن صفة الرحمة لا تتغير باختلاف أحوالها ، وإنما الدنيا والآخرة عبارتان عن اختلاف أحوالك ولو لا هذا لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام معنى ، حيث قال : " أوّل ما خطّ الله في الكتاب الأوّل أنا الله لا إله إلّا أنا سبقت رحمتي غضبي فمن شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، فله الجنّة".
واعلم أن أهل البصائر قد انكشف لهم سبق الرحمة وشمولها بأسباب ومكاشفات سوى ما عندهم من الأخبار والآثار ، ولكن ذكر ذلك يطول. فأبشر برحمة الله وبالنجاة المطلقة إن جمعت بين الإيمان والعمل الصالح ، وبالهلاك المطلق إن خلوت عنهما جميعا ، وإن كنت صاحب يقين في أصل التصديق وصاحب خطأ في بعض التأويل ، أو صاحب شكّ فيهما ، أو صاحب خلط في الأعمال ، فلا تطمع في النجاة المطلقة.
واعلم ، أنك بين أن تعذب مدة ثم تخلى ، وبين أن يشفع فيك من تيقنت صدقه في جميع ما جاء به أو غيره ، فاجتهد أن يغنيك الله بفضله عن شفاعة الشفعاء فإن الأمر في ذلك مخطر.
فصل
قد ظنّ بعض الناس أن مأخذ التكفير من العقل لا من الشرع ، وأن الجاهل بالله كافر والعارف به مؤمن ، فيقال له : الحكم بإباحة الدم والخلود في النار حكم شرعي لا معنى له قبل ورود الشرع ، وإن أراد به أن المفهوم من الشارع أن الجاهل بالله هو الكافر ، فهذا لا يمكن حصره فيه لأن الجاهل بالرسول وبالآخرة أيضا كافر ، ثم إن خصص ذلك بالجهل بذات الله تعالى بجحد وجوده أو وحدانيته ولم يطرده في الصفات فربما سوعد عليه ، وإن جعل المخطئ في الصفات أيضا جاهلا أو كافرا لزمه تكفير من نفى صفة البقاء وصفة القدم ، ومن نفى الكلام وصفا زائدا على العلم ، ومن نفى السمع والبصر زائدا على العلم ، ومن نفى جواز الرؤية ، ومن أثبت الجهة وأثبت إرادة حادثة لا في ذاته ولا في محل وتكفير المخالفين فيه ، وبالجملة يلزمه التكفير في كل مسألة تتعلق بصفات الله تعالى وذلك حكم لا مستند له ، وإن خصص ببعض الصفات دون بعض لم يجد لذلك فصلا ومردا ، ولا وجه له إلا الضبط بالتكذيب ليعم المكذب بالرسول وبالمعاد ، ويخرج منه المؤول ، ثم لا يبعد أن يقع الشكّ والنظر في بعض المسائل من جملة التأويل أو التكذيب حتى يكون التأويل بعيدا ويقضى فيه بالظن وموجب الاجتهاد ، فقد عرفت أن هذه مسألة اجتهادية.