وروي أن الجنيد قدّس الله سره رئي في المنام بعد موته ، فقيل له : ما الخبر يا أبا القاسم؟ قال : طاحت تلك العبارات ، وفنيت تلك الإشارات وما نفعنا إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل.
أيها الولد : لا تكن من الأعمال مفلسا ، ولا من الأحوال خاليا وتيقن أن العلم المجرد لا يأخذ اليد ، مثاله : لو كان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى ، وكان الرجل شجاعا وأهل حرب فحمل عليه أسد عظيم مهيب فما ظنك هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟ فمن المعلوم أنها لا تدفع إلا بالتحريك والضرب ، فكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلّمها ولم يعمل بها لا تفيده إلا بالعمل ، ومثله أيضا لو كان لرجل حرارة ومرض صفراوي يكون علاجه بالسكنجبين والكشكاب فلا يحصل البرء إلا باستعمالها (شعر) :
گر مى دو هزار رطل همى پيمائى |
|
تا مى نخورى نباشدت شيدائي |
ولو قرأت العلم مائة سنة وجمعت ألف كتاب ، لا تكون مستعدا لرحمة الله تعالى إلا بالعمل: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] ، (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠] ، (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة : ٨٢] ، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً* خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) [الكهف : ١٠٧ و ١٠٨] ، (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [الفرقان : ٧٠]. وما تقول في هذا الحديث: " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا". والإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، ودليل الأعمال أكثر من أن يحصى إن كان العبد يبلغ الجنة بفضل الله تعالى وكرمه ، لكن بعد أن يستعد بطاعته وعبادته لأن رحمة الله قريب من المحسنين ، ولو قيل أيضا يبلغ بمجرد الإيمان ، قلنا : نعم ، لكن متى يبلغ؟ وكم من عقبة كؤود يقطعها إلى أن يصل؟ فأوّل تلك العقبات عقبة الإيمان ، وأنه هل يسلم من سلب الإيمان أم لا؟ وإذا وصل ، هل يكون خائنا مفلسا؟ وقال الحسن البصري : يقول الله تعالى لعباده يوم القيامة : ادخلوا يا عبادي الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم.
أيها الولد : ما لم تعمل لم تجد الأجر.
حكي أن رجلا من بني إسرائيل عبد الله تعالى سبعين سنة فأراد الله تعالى أن يجلوه على الملائكة فأرسل الله إليه ملكا يخبره أنه مع تلك العبادة لا يليق به دخول الجنة ، فلما بلغه قال العابد : نحن خلقنا للعبادة فينبغي لنا أن نعبده ، فلما رجع الملك قال : إلهي أنت أعلم بما قال ، فقال الله تعالى : إذا هو لم يعرض عن عبادتنا فنحن مع الكرم لا نعرض عنه ، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له ، قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا". وقال علي رضي الله عنه : (من ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمن ، ومن ظن أنه ببذل الجهد يصل فهو مستغن). وقال الحسن رحمهالله تعالى : (طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب). وقال : علامة الحقيقة ترك ملاحظة العمل لا ترك العمل. وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : " الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من اتّبع هواه وتمنّى على الله تعالى الأماني".