أيها الولد : كم من ليال أحييتها بتكرار العلم ومطالعة الكتب وحرمت على نفسك النوم ، لا أعلم ما كان الباعث فيه إن كان نيل عرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصبها والمباهاة على الأقران والأمثال فويل لك ثم ويل لك. وإن كان قصدك فيه إحياء شريعة النبيّ صلىاللهعليهوسلم وتهذيب أخلاقك وكسر النفس الأمّارة بالسوء ، فطوبى لك ثم طوبى لك. ولقد صدق من قال شعرا :
سهر العيون لغير وجهك ضائع |
|
وبكاؤهنّ لغير فقدك باطل |
أيها الولد : عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.
أيها الولد : أي شيء حاصل لك من تحصيل علم الكلام ، والخلاف والطب والدواوين والأشعار والنجوم والعروض والنحو والتصريف غير تضييع العمر بخلاف ذي الجلال ، إني رأيت في إنجيل عيسى عليه الصلاة والسلام ، قال : من ساعة أن يوضع الميت على الجنازة إلى أن يوضع على شفير القبر يسأل الله بعظمته منه أربعين سؤالا ، لله أوّله يقول عبدي طهرت منظر الخلق سنين وما طهرت منظري ساعة وكل يوم ينظر في قلبك يقول : ما تصنع لغيري وأنت محفوف بخيري ، أما أنت أصم لا تسمع.
أيها الولد : العلم بلا عمل جنون ، والعمل بغير علم لا يكون.
واعلم أن العلم لا يبعدك اليوم عن المعاصي ، ولا يحملك على الطاعة ، ولن يبعدك غدا عن نار جهنم ، وإذا لم تعمل اليوم ولم تدارك الأيّام الماضية تقول غدا يوم القيامة ، فارجعنا نعمل صالحا ، فيقال : يا أحمق أنت من هناك تجيء.
أيها الولد : اجعل الهمة في الروح ، والهزيمة في النفس ، والموت في البدن لأن منزلك القبر ، وأهل المقابر ينتظرونك في كل لحظة متى تصل إليهم ، إياك إياك أن تصل إليهم بلا زاد ، وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه : هذه الأجساد قفص الطيور ، واصطبل الدوابّ ، فتفكر في نفسك من أيهما أنت ، إن كنت من الطيور العلوية فحين تسمع طنين طبل ارجعي إلى ربك تطير صاعدا إلى أن تقعد في أعالي بروج الجنان ، كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : " اهتزّ عرش الرحمن من موت سعد بن معاذ". والعياذ بالله إن كنت من الدواب ، كما قال الله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩]. فلا تأمن انتقالك من زاوية الدار إلى هاوية النار ، وروي أن الحسن البصري رحمهالله تعالى أعطى شربة ماء بارد فأخذ القدح وغشي عليه وسقط من يده ، فلما أفاق قيل له : ما لك يا أبا سعيد؟ قال : ذكرت أمنية أهل النار حين يقولون لأهل الجنة أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله.
أيها الولد : لو كان العلم المجرد كافيا لك ولا تحتاج إلى عمل سواه ، لكان نداء : هل من سائل ، هل من مستغفر ، هل من تائب ضائعا ، بلا فائدة. وروي أن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ذكروا عبد الله بن عمر عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : " نعم الرّجل هو ،