يبصر ما بعد منه ولا ما قرب ولا يبصر ما هو وراء حجاب ، ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها ، ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له ويغلط كثيرا في إبصاره فيرى الكبير صغيرا ويرى البعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا ، فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها ، فليت شعري هل هو أولى باسم النور فاعلم أن في قلب الإنسان عينا هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة النفس الإنساني ، دع عنك هذه العبارات ، فإنها إذا كثرت أوهمت عند الضعيف البصيرة كثرة المعاني فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون ولنسمه عقلا متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع.
أما الأولى : فهو أن العين لا تبصر نفسها والعقل يدرك غيره ويدرك نفسه ويدرك صفات نفسه إذ يدرك نفسه عالما وقادرا ، ويدر علم نفسه ، ويدرك علمه بعلمه بنفسه وعلمه بعلمه بعلمه نفسه إلى غير نهاية ، وهذه خاصة لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام ووراءه سر يطول شرحه.
الثانية : أن العين لا تبصر ما قرب منها قربا مفرطا ولا ما بعد والعقل عنده يسوي بين القريب والبعيد ويعرج في طرقه إلى أعلى السماوات رقيا ، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرض هويّا ، بل إذا حقت الحقائق انكشف أنه منزه عن أن يحوم بجنبات قدسه القرب والبعد الذي يعرض بين الأجسام ، فإنه أنموذج من بحور الله تعالى ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة وإن كان لا يرقى إلى ذروة المساوقة ، وهذا ربما هزك للتفطن لسر قوله صلىاللهعليهوسلم : " إنّ الله خلق آدم على صورته" ، فلست أرى الآن الخوض في بيانه.
الثالثة : أن العين لا تدرك ما وراء الحجاب ، والعقل يتصرف في العرش والكرسي وما وراء حجب السماوات وفي الملأ الأعلى والملكوت كتصرفه في عالمه الخاص به ومملكته القريبة. أعني بها الخاصة به ، بل الحقائق كلها لا تحجب عن العقل ، وإنما حجاب العقل حيث يحجب من نفسه لنفسه بسبب صفات مقارنة له تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان وستعرف هذا في الفصل الثالث من الكتاب.
الرابعة : أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها بل قوالبها وصورها دون حقائقها ، والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ، ويدرك حقائقها وأرواحها ، ويستنبط أسبابها وعللها وحكمها ، وأنها مم حدثت وكيف خلقت ومن كم معنى جمع الشيء وركب وعلى أي مرتبة في الوجود نزل وما نسبته إلى سائر مخلوقاته؟ إلى مباحث أخر يطول شرحها نرى الإيجاز فيها أولى.
الخامسة : أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولات وعن كثير من