وإنما يكمل تجرده عن هذه النوازع بعد الموت وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلي الأسرار ويصادف كل أحد ما قدمه من خير أو شر محضرا ويشاهد كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعندها يقال له : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ، وإنما الغطاء غطاء الخيال والوهم ، وعندها يقول المغرور بأوهامه واعتقاداته الفاسدة وخيالاته الباطلة : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ، فقد عرفت بهذا أن العين أولى باسم النور من النور المعروف المحسوس ، ثم عرفت أن العقل أولى باسم النور من العين ، بل بينهما من التفاوت ما يصح أن يقال معه إنه أولى بل الحق أنه يستحق الاسم دونه.
دقيقة : اعلم أن العقول وإن كانت مبصرة فليست المبصرات عندها كلها على مرتبة واحدة ، بل بعضها تكون عندها كأنها حاضرة كالعلوم الضرورية مثل علمه بأن الشيء الواحد لا يكون قديما حديثا ولا يكون موجودا معدوما ، والقول الواحد لا يكون صدقا وكذبا وأن الحكم إذا ثبت للشيء جوازه ثبت لمثله ، وأن الأخص إذا كان موجودا كان الأعم واجب الوجود ، فإذا وجد السواد فقد وجد اللون ، وإذا وجد الإنسان فقد وجد الحيوان ، وأما عكسه فلا يلزم في العقل إذ لا يلزم من الوجود اللون وجود السواد ، ولا من وجود الحيوان وجود الإنسان إلى غير ذلك من القضايا الضرورية في الواجبات والجائزات والمستحيلات ، ومنها ما لا يقارن العقل في كل حال إذا عرض عليه بل يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستوري زناده وينبه عليه بالتنبيه كالنظريات ، وإنما ينبهه كلام الحكماء. فعند اشراق نور الحكمة يصير الإنسان مبصرا بالفعل بعد أن كان مبصرا بالقوة. وأعظم الحكمة كلام الله تعالى : (ومن جملة كلامه القرآن خاصة فيكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة ، إذ به يتم الإبصار فبالحرى أن يسمى القرآن نورا كما يسمى نور الشمس نورا فمثال القرآن نور الشمس ، ومثال العقل نور العين) ، وبهذا يفهم معنى قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [التغابن: ٨]. وقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [النساء : ١٧٤].
تكملة لهذه الحقيقة : فإذا فهمت من هذا أن العين عينان ظاهرة وباطنة من عالم الحس والمشاهدة ، والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت ولكل عين من العينين شمس ونور عنده تصير كاملة الإبصار. إحداهما ظاهرة والأخرى باطنة. والظاهرة من عالم الشهادة وهي الشمس المحسوسة ، والباطنة من عالم الملكوت وهو القرآن وكتب الله المنزلة ، مهما انكشف لك هذا انكشافا تاما فقد انفتح لك باب من أبواب الملكوت وفي هذا العلم عجائب يستحقر بالإضافة إليها عالم الشهادة ، ومن لم يسافر إلى هذا العلم وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة يعد ومحروم عن خاصية الإنسانية بل أضل من البهيمة إذ لم تعط البهيمة أجنحة الطيران إلى هذا العلم ، ولذلك قال تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩].
واعلم أن عالم الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشرة بالإضافة إلى اللب وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح ، وكالظلمة بالإضافة إلى النور وكالسفل بالإضافة إلى العلو ، ولذلك يسمى عالم