الروح الخيالي فينطبع بصورة موازية للمعنى محاكية له ، وهذا الحظ من الوحي في اليقظة يحتاج إلى التأويل كما أنه في النوم يفتقر إلى التعبير ، والواقع منه في النوم نسبته إلى الخواص النبوية نسبة الواحد إلى ستة وأربعين ، والواقع منه في اليقظة نسبته أعظم من ذلك وأظن أن نسبته نسبة الواحد إلى الثلاثة ، فإن الذي انكشف لنا أن الخواص النبوية تنحصر شعبها في ثلاثة أجناس وهذا واحد من تلك الأجناس الثلاثة.
القطب الثاني : في بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية إذ بمعرفتها تعرف أمثلة القرآن :
فالأول منها : الروح الحساس وهو الذي يتلقى ما تورده الحواس إذ كان أصل الروح الحيواني وأوله وبه يصير الحيوان حيوانا وهو موجود للصبي الرضيع.
الثاني : الروح الخيالي وهو الذي يكتب ما أوردته الحواس ويحفظه مخزونا عنده ليعرضه على الروح العقلي فوقه عند الحاجة إليه. وهذا لا يوجد للصبي الرضيع في بدء نشوئه ولذلك يولع بالشيء ليأخذه ، فإذا غيب عنه ينساه ولا تنازعه نفسه إليه إلى أن يكبر قليلا بحيث إذا غيب عنه بكى وطلب ذلك لبقاء صورته محفوظة في خياله ، وهذا قد يوجد لبعض الحيوانات دون بعض ، ولا يوجد للفراش المتهافت على النار لأنه يقصد النار لشغفه بضياء النار فيظن أن السراج كوة مفتوحة إلى موضع الضياء فيلقي نفسه عليه فيتأذى به ، لكنه إذا جاوزه وحصل في الظلمة عاوده مرة أخرى بعد مرة ، ولو كان له الروح الحافظ المستثبت لما أداه الحس إليه من الألم لما عاوده بعد أن تضرر به مرة. فالكلب إذا ضرب مرة بخشبة فإذا رأى الخشبة بعد ذلك هرب.
الثالث : الروح العقلي الذي يدرك المعاني الخارجة عن الحس والخيال وهو الجوهر الإنسي الخاص ولا يوجد للبهائم ولا الصبيان ، ومدركاته المعارف الضرورية الكلية كما ذكرناه عند ترجيح نور العقل على نور العين.
الرابع : الروح الفكري وهو الذي يأخذ العلوم العقلية المحضة فيوقع بينها تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف نفسية ثم استفاد نتيجتين مثلا ألف بينهما مرة أخرى واستفاد نتيجة مرة أخرى ، ولا تزال تتزايد كذلك إلى غير نهاية.
الخامس : الروح القدسي النبوي الذي به يختص الأنبياء وبعض الأولياء ، وفيه تنجلي لوائح الغيب وأحكام الآخرة وجملة من معارف ملكوت السماوات والأرض ، بل من المعارف الربانية التي تقصر دونها الروح العقلي والفكري وإليه الإشارة بقول تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢]. ولا يبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طورا آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لم يبعد كون العقل طورا