مع كمال البصيرة.
فهذه مغلطة ، منها ما وقع لبعض السالكين في إباحة طي بساط الأحكام ظاهرا حتى ربما ترك أحدهم الصلاة وزعم أنه دائم الصلاة بسره ، وهذا أشد مغلطة الحمقاء من الإباحية الذين تأخذهم ترهات كقول بعضهم : إن الله غني عن عملنا. وقول بعضهم : إن الباطن مشحون بالخبائث ليس يمكن تزكيته منها ولا مطمع في استئصال الغضب والشهوة بظنه أنه مأمور باستئصالها ، فهذه حماقات. وأما ما ذكرناه فهو ككبوة جواد وهفوة سالك صده الشيطان فدلاه بحبال الغرور وأرجع إلى حديث النعلين فأقول : ظاهر خلع النعلين منبه على ترك الكونين ، فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة ، ولكل حق حقيقة ، وأهل هذه الرتبة هم الذين بلغوا درجة الزجاجة ، كما سيأتي معنى الزجاجة لأن الخيال الذي من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب الأسرار ويحول بينك وبين الأنوار ، ولكن إذا صفا صار كالزجاج الصافي ، وصار غير حائل عن الأنوار بل صار مع ذلك مؤديا للأنوار ، بل صار مع ذلك حافظا للأنوار عن الانطفاء بعواصف الرياح ، فستأتيك قصة الزجاجة. فاعلم أن العالم الكثيف الخيالي السفلي صار في حق الأنبياء عليهمالسلام زجاجة ، ومشكاة للأنوار ، ومصفاة للأسرار ، ومرقاة إلى العالم الأعلى. وبهذا يعرف أن المثال الظاهر حق ووراء هذا سر. وقس عليه الضوء والنهار وغيره.
دقيقة : إذا قال عليه الصلاة والسلام : " رأيت عبد الرحمن بن عوف دخل الجنة حبوا" ، فلا تظن أنه لم يشاهده بالبصر كذلك بل رآه في يقظته كما يراه النائم في نومه ، وإن كان عبد الرحمن بن عوف نائما في البيت بشخصه ، فإن النوم إنما أثر في أمثال هذه المشاهدات لقهره سلطان الحواس عن النور الباطن الإلهي فإن الحواس شاغلة وجاذبة إلى عالم الحس وصارفة وجهه عن عالم الغيب والملكوت ، وبعض الأنوار النبوية قد تصفى وتستولي بحيث لا تجذبه الحواس إلى عالمها ، ولا تشغله فيشاهد في اليقظة ما يشاهده غيره في المنام لكنه إذا كان في غاية الكمال لم يقتصر إدراكه على محض الصورة المبصرة ، بل عبر منها إلى السر فانكشف له أن الإيمان جاذب إلى العالم الأعلى الذي يعبر عنه بالجنة ، والغنى والثروة جاذبة إلى الحياة الحاضرة وهي العالم الأسفل ، فإذا كان الجاذب إلى أشغال الدنيا أقوى مقارنة من الجاذب للآخر صد عن السير إلى الجنة فإن كان جاذب الإيمان أقوى أورث عسرا أو بطءا في سيره فيكون مثاله من عالم الشهادة الحبو ، فكذلك تنجلي الأسرار من وراء زجاجات الخيال وذلك لا يقصر في حكمه على عبد الرحمن وإن كان إبصاره مقصورا عليه ، بل يحكم به عن كل من قويت بصيرته واستحكم إيمانه وكثرت ثروته كثرة تزاحم الإيمان ، لكن لا تقاومه لرجحان قوة الإيمان ، فهذا يعرفك كيفية إبصار الأنبياء الصور ، وكيفية مشاهدتهم المعاني من وراء الصور ، والأغلب أن يكون المعنى سابقا إلى المشاهدة الباطنية ، ثم يشرف منه على