ولم يدركوا أن أول درجات المعقولات تجاوز النسبة إلى الجهات والحيزة.
الصنف الثالث : المحجوبون بالأنوار الإلهية مقرونة بمقايسات عقلية فاسدة مظلمة فعبدوا إلها سميعا بصيرا عالما قادرا مريدا حيا منزها عن الجهات ، لكنهم فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم ، وربما صرح بعضهم ، فقال كلامه حروف وأصوات ككلامنا ، وربما ترقى بعضهم فقال : لا بل هو كحديث نفسنا ولا حرف ولا صوت ، وكذلك إذا طولبوا بحقيقة السمع والبصر والحياة رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصلا معاني هذه الإطلاقات في حق الله تعالى ، ولذلك قالوا في إرادته إنها حادثة مثل إرادتنا وإنه طلب وقصد مثل قصدنا ، وهذه مذاهب مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها. وهؤلاء محجوبون بجملة من أنوار مع ظلمة المقايسات العقلية الفاسدة ، فهؤلاء كلهم أصناف القسم الثاني الذين حجبوا بنور مقرون بظلمة.
القسم الثالث : هم المحجوبون بمحض الأنوار وهم أصناف ولا يمكن إحصاؤهم فأشير إلى ثلاثة أصناف منهم :
الصنف الأول : عرفوا معنى الصفات تحقيقا وأدركوا أن إطلاق اسم الكلام والإرادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل إطلاقه على البشر ، فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالإضافة إلى المخلوقات كما عرف موسى في جواب قول فرعون : وما رب العالمين؟ فقالوا : إن الرب المقدس عن معاني هذه الصفات محرك السماوات ومدبرها.
الصنف الثاني : ترقوا عن هؤلاء من حيث ظهر لهم أن في السماوات كثرة ، وأن محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى ملكا فيهم كثرة ، وإنما نسبهم إلى الأنوار الإلهية نسبة الكواكب في الأنوار المحسوسة ، ثم لاح لهم أن هذه السماوات في ضمن فلك آخر يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة ، فالرب هو المحرك للجرم الأقصى المحتوي على الأفلاك كلها إذ الكثرة منفية عنه.
الصنف الثالث : ترقوا عن هؤلاء وقالوا : إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له وطاعة له وطاعة من عبد من عبيده يسمى ملكا نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر إلى الأنوار المحسوسة ، فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة هذا المحرك ، ويكون الرب تعالى وجد محركا للكل بطريق الأمر لا بطريق المباشرة ، ثم في تفهيم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الافهام ولا يحتمله هذا الكتاب ، فهؤلاء أصناف كلهم محجوبون بالأنوار المحضة ، وإنما الواصلون صنف رابع تجلى لهم أيضا أن هذا المطاع موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ لسر ليس يحتمل هذا الكتاب كشفه ، وأن نسبة الجمر إلى جوهر النار الصرف فتوجهوا من الذي يحرك السماوات ومن الذي أمر بتحريكها ، فوصلوا إلى موجود ، منزه عن كل ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم إذ وجدوه منزها ومقدسا عن جميع ما وصفناه من قبل ، ثم هؤلاء انقسموا :