فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق وتلاشى ولكن بقي هو ملاحظا للجمال والقدس وملاحظا ذاته في جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية ، فانمحقت فيه المبصرات دون المبصر ، وجاوز هؤلاء طائفة منهم خواص الخواص فأحرقتهم سبحات وجهه الأعلى وغشيهم سلطان الجلال وانمحقوا وتلاشوا في ذاتهم ، ولم يبق لهم لحاظ إلى أنفسهم لفنائهم عن أنفسهم ، ولم يبق إلا الواحد الحق وصار معنى قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]. لهم ذوقا وحالا ، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول وذكرنا أنهم كيف أطلقوا الاتحاد وكيف ظنوه فهذه نهاية الواصلين.
منهم من لم يتدرج في الترقي والعروج عن التفصيل الذي ذكرناه ، ولم يطل عليه العروج فسبقوا من أول وهلة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه عنه فغلب عليهم أولا ما غلب على الآخرين آخرا ، وهجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر حسي أو بصيرة عقلية ، ويشبه أن يكون الأول طريق الخليل ، والثاني طريق الحبيب صلوات الله وسلامه عليهما ، والله أعلم بأسرار أقدامهما وأنوار مقامهما.
فهذه إشارة إلى أصناف المحجوبين ولا يبعد أن يبلغ عددهم إذا فصلت المقامات وتتبع حجب السالكين سبعين ألفا ، ولكن إذا فتشت لا تجد واحدا منهم خارجا عن الأقسام التي ذكرناها ، فإنهم إما يحتجون بصفاتهم البشرية أو بالحس أو بالخيال وبمقايسة العقل أو بالنور المحض كما سبق.
فهذا ما حضرني في جواب هذه الأسئلة مع أن السؤال صادفني ، والفكر منقسم ، والخاطر متشعب ، والهم إلى غير هذا الفن منصرف ، ومقترحي عليه أن تسأل لي العفو عما طغى به القلم أو زلت به القدم. فإن خوض غمرة الأسرار الإلهية خطيرة ، واستكشاف الأنوار العلوية من وراء الحجب غير يسير ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.