ومنهاجها ، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف والسنان ، فيما بعد بيان الله بيان على أننا ننصف ولا ننكر أن حاجة المعالجة تزيد بزيادة المرض وأن لطول الزمان وبعد العهد عن عصر النبوة تأثيرا في إثارة الإشكالات وأن للعلاج طريقين : أحدهما : الخوض في البيان والبرهان إلى أن يصلح واحد يفسد به اثنان ، فإن صلاحه بالإضافة إلى الأكياس وفساده بالإضافة إلى البله وما أقل الأكياس وما أكثر البله والعناية بالأكثرين أولى.
والطريق الثاني : طريق السلف في الكف والسكوت والعدول إلى الدرة والسوط والسيف ، وذلك مما يقتنع الأكثرين وإن كان لا يقنع الأقلين ، وآية إقناعه أن من يسترق من الكفار من العبيد والإماء تراهم يسلمون تحت ظلال السيوف ثم يستمرون عليه حتى يصير طوعا ما كان في البداية كرها ، ويصير اعتقادا جزما ما كان في الابتداء مراء وشكا ، وذلك بمشاهدة أهل الدين والمؤانسة بهم وسماع كلام الله ورؤية الصالحين وخبرهم وقرائن من هذا الجنس تناسب طباعهم مناسبة أشد من مناسبة الجدل والدليل ، فإذا كان كل واحد من العلاجين يناسب قوما دون قوم وجب ترجيح الأنفع في الأكثر ، فالمعاصرون للطبيب الأول المؤيد بروح القدس المكاشف من الحضرة الإلهية الموحى إليه من الخبير البصير بأسرار عباده وبواطنهم أعرف بالأصوب والأصلح قطعا ، فسلوك سبيلهم لا محالة أولى.
الوظيفة السابعة : التسليم لأهل المعرفة وبيانه أنه يجب على العامي أن يعتقد أن ما انطوى عنه من معاني هذه الظواهر وأسرارها ليس منطويا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وعن الصديق ، وعن أكابر الصحابة ، وعن الأولياء والعلماء الراسخين ، وأنه إنما انطوى عنه لعجزه وقصور معرفته ، فلا ينبغي أن يقيس بنفسه غيره فلا تقاس الملائكة بالحدادين وليس ما يخلو عنه مخادع العجائز يلزم منه أن يخلو عنه خزائن الملوك ، فقد خلق الناس أشتاتا متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر ، فانظر إلى تفاوتها وتباعد ما بينهما صورة ولونا وخاصية ونفاسة ، فكذلك القلوب معادن لسائر جواهر المعارف ، فبعضها معدن النبوة والولاية والعمل ومعرفة الله تعالى ، وبعضها معدن للشهوات البهيمية والأخلاق الشيطانية ، بل ترى الناس يتفاوتون في الحرف والصناعات فقد يقدر الواحد بخفة يده وحذاقة صناعته على أمور لا يطمع الآخر في بلوغ أوائله فضلا عن غايته ، ولو اشتغل بتعلمه جميع عمره. فكذلك معرفة الله تعالى ، بل كما ينقسم الناس إلى جبان عاجز لا يطيق النظر إلى التطام أمواج البحر وإن كان على ساحله ، وإلى من يطيق ذلك ولكن لا يمكنه الخوض في أطرافه وإن كان قائما في الماء على رجله ، وإلى من يطيق ذلك لكن لا يطيق رفع الرجل عن الأرض اعتمادا على السباحة ، وإلى من يطيق السباحة إلى حد قريب من الشط لكن لا يطيق خوض البحر إلى لجته والمواضع المغرقة المخطرة ، وإلى من يطيق ذلك لكن لا يطيق الغوص في عمق البحر إلى مستقره الذي فيه نفائسه وجوهره ، فهكذا مثال بحر المعرفة وتفاوت الناس فيه مثله حذو القذة من غير فرق.
فإن قيل : فالعارفون محيطون بكمال معرفة الله سبحانه حتى لا ينطوي عنهم شيء.