والإعراض عن غير الله تعالى ، وسبب المرض المانع عن ذكر الله معرفته الإقبال على الشهوات والحرص على الدنيا ، وعرفت أن الله تعالى قادر على أن يعرف عموم عباده ذلك بواسطة الكشف لبعض خواص عباده ، وعرفت أنه قد فعل ذلك فقد عرفت رسله بالبرهان وآمنت ، وإذا عرفت أن هذه التعريفات بالأنبياء إنما تكون في كسوة ألفاظ وعبارات توحى إليهم وتلقى في سمعهم إما في يقظة أو في منام ، فقد آمنت بالكتب ، وإذا عرفت أن أفعال الله تعالى منقسمة إلى ما فعله بواسطة وإلى ما فعله بغير واسطة وأن وسائطه مختلفة المراتب فالوسائط القريبة هم المقربون وعنهم يعبر بالملائكة ، لكن معرفة هذا بطريق البرهان عسير والقول فيه طويل فصدق الرسل في أخبارهم عنهم بعد أن عرفت صدق الرسل بالبرهان ، واكتف بذلك فإنه درجة من درجات الإيمان (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١].
فصل
كل ما يتوالد فلا يستحيل أن يتولد أصلا ، وما يتولد لا يستحيل أن يتوالد فقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) [الدهر : ٢]. إنما عنى به الإنسان التوالدي ، وقوله : (خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الحج : ٥]. عنى به الإنسان التولدي ، وقد تتولد العقارب من الباذورج ولباب الخبز والحيات من العسل والنحل من العجل والمنخنق المنكسر عظامه والبق من الخل وسام أبرص من القرنبيط والخنافس من البعرة ومن نوى النبق العقرب الجراوة ومن الشعر الحيات ومن الطين والمدر الفأر ومن طين أصول القصب الدائم والرطوبة الطير ولا سيما طير الماء وأمثال ذلك. كما ذكر في كتب الطلسمات وغيرها ، ثم يتوالد هذا المتولد ويبقى نوعه بالتوالد وانطباق دائرة معدل النهار على فلك البروج مما يدل على خراب العالم السفلي وتغييره للفصول. أعني الربيع والصيف والخريف والشتاء فلا يبقى الحرث والنسل كما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٣٦]. يعني على الأرض ، فخلق الله تعالى آدم من تراب ثم حصل منه التوالد ونظير ذلك مشاهد ، وكذا الصنائع والحرف تحصل من طريق الإلهام ثم تستفاد وتتعلم ، وتحصل النار من المقدحة والزند ثم تقتبس بعد حصولها : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس : ٣٨]. الذي خلق عند انفراج الدائرتين معدل النهار وفلك البروج الذي يتزايد ، الميل الذي خلق بينهما آدم من تراب ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه ، فمن شك في كيفية بدء الخلق ووضع الصانع الحكيم في التوالد والتولد ، فلينظر إلى المحسوسات التي ذكرناها ، وأما النشأة الأخرى وكيفية عود النفوس والأرواح إلى أشباحها فمذكورة في بابها.
فصل في المبدعات
المبدعات والمخلوقات أحدثها الله تعالى بالترتيب ، فهو الأول الذي لا أول قبله ومنه تحصل المبدعات بل الممكنات بأسرها ، ثم ينزل الترتيب من الأشرف فالأشرف حتى ينتهي إلى المادة