التي هي أخس الأشياء ، ثم ابتدأ تعالى من الأخس عائدا إلى الأشرف حتى انتهى إلى الإنسان ويعود الإنسان عند زكاء نفسه إلى حيث قال : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٨]. ولذلك قال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣]. أما الظاهر فمركوز في غرائز العقول أن للكل مبدأ وأن للحادث محدثا وللممكن موجودا واجبا ، أما الباطن فلأن وصفه الخاص لا يعرفه إلا هو وربما كان باطنا لغاية ظهوره ، كما أن الشمس التي هي في غاية البعد عن هذا المثال ظاهر وباهر وبسبب غاية ظهورها لا تدركها الحاسة المبصرة محاذاة ومقابلة.
والميزان : ما يعرف به حقائق الأشياء ويميز به صحيح العقيدة من الفاسد وهو الواسطة بين السماء والأرض حيث قال : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ* وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ* وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) [الرحمن : ٧. ١٠]. وذلك الميزان سر من أسرار الربوبية لا يعرفه إلا الراسخون في العلم ، والله أعلم.
الركن الثاني في معرفة الملائكة
الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها مختلفة بالحقائق اختلافا يكون بين الأنواع.
مثال ذلك : القدرة فإنها مخالفة للعلم والعلم مخالف للقدرة وهما مخالفا اللون واللون والقدرة والعلم أعراض قائمة بغيرها ، فكذلك بين الملك والشيطان والجن اختلاف ومع ذلك ، فكل واحد جوهر قائم بنفسه وقد وقع الاختلاف بين الجن والملك فلا يدري أهو اختلاف بين النوعين كالاختلاف بين الفرس والإنسان ، أو الاختلاف في الأعراض كالاختلاف بين الإنسان الناقص والكامل ، وكذا الاختلاف بين الملك والشيطان ، وهو أن يكون النوع واحدا والاختلاف واقعا في العوارض ، كالاختلاف بين الخير والشرير ، والاختلاف بين النبي والولي ، والظاهر أن اختلافهم بالنوع والعلم عند الله تعالى ، وهذه الجواهر المذكورة لا تنقسم ، أعني أن محل العلم بالله تعالى واحد لا ينقسم ، فإن العلم الواحد لا يحل إلا في محل واحد وحقيقة الإنسان كذلك ، فالعلم والجهل بشيء واحد في محل واحد متضادان وفي المحلين غير متضادين ، وإما أن هذا الجوهر غير منقسم وهل هو متحيز أم لا؟ فهذا الكلام عائد إلى معرفة الجزء الذي لا يتجزأ ، فإن استحال الجزء الذي لا يتجزأ فهذا الجوهر غير منقسم ولا متحيز ، وإن لم يستحل الجزء الذي لا يتجزأ فيمكن أن يكون هذا الجوهر متحيزا وقد قال قوم : لا يجوز أن يكون غير منقسم ولا متحيز ، فإن الله تعالى غير منقسم ولا متحيز فما الذي يفصل هذا من ذلك ، وهذا غير مبرهن عليه لأنه ربما تباينا في حقيقة الذات ، وإن سلب عنهما الانقسام والتحيز والأمور المكانية وتلك سلوب والاعتبار بالحقائق لأن ما سلب عن الحقائق كالعرضين المختلفين بالحد والحقيقة أن الحالين في محل واحد ، فإن إيجاب احتياجهما إلى المحل وكونهما في المحل لا يفيد تماثلهما ، فكذلك سلب الاحتياج إلى المحل والمكان لا يفيد