عمارة الدار بالتدريج لتمهد أصل النبوة بآدم عليهالسلام ، ولم يزل ينمو ويكمل حتى بلغ الكمال بمحمد عليهالسلام ، وكان المقصود كمال النبوة وغايتها وتمهيد أوائلها وسيلة إليها كتأسيس البنيان وتمهيد أصول الحيطان ، فإنه وسيلة إلى كمال صورة الدار ولهذا السر كان خاتم النبيين فإن الزيادة على الكمال نقصان وكمال شكل الآلة الباطشة كف عليه خمس أصابع ، فكما أن ذا الأصابع الأربعة ناقص فذو الأصابع الستة ناقص ، لأن السادسة زيادة على الكفاية فهو نقصان في الحقيقة ، وإن كانت زيادة في الصور ، وإليه الإشارة بقوله عليهالسلام : مثل النبوة كمثل دار معمورة لم يبق فيها إلا موضع لبنة ، فكنت أنا موضع تلك اللبنة أو لفظ هذا معناه ، فإذا عرفت أن كونه خاتم النبيين ضرورة لا يتصور خلافة إذا بلغ به الغاية والكمال ، والغاية أول في التقدير ، آخر في الوجود.
وأما قوله عليهالسلام : " كنت نبيّا وآدم بين الماء والطّين". فهو أيضا إشارة إلى ما ذكرناه ، وأنه كان نبيا في التقدير قبل تمام خلقه آدم عليهالسلام ، لأنه لم يشأ خلق آدم إلا لينتزع الصافي من ذريته ، ولا يزال يستصفي تدريجا إلى أن بلغ كمال الصفاء ، فقيل الروح القدسي النبوي المحمدي ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن تعلم أن للدار ، مثلا وجودين وجود في ذهن المهندس ودماغه حتى كأنه ينظر إلى صورة الدار ، ووجودها خارج الذهن في الأعيان. والوجود الذهني سبب الوجود الخارجي العيني فهو سابق لا محالة ، فكذلك فاعلم أن الله تعالى يقدر أولا ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا وإنما التقدير يرسم في اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أولا في اللوح أو في القرطاس ، فتصير الدار موجودة بكمال صورتها نوعا من الوجود ، فيكون هو سببا للوجود الحقيقي ، كما أن هذه الصورة ترسم في لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجري على وفق العلم بل العلم مجريه ، فكذلك تقدير صورة الأمور الإلهية ترسم أولا في اللوح المحفوظ ، وإنما ينتقش اللوح المحفوظ من القلم والقلم يجري على وفق العلم ، واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصورة فيه ، والقلم عبارة عن موجود منه تفيض الصور على اللوح المنتقش ، فإن حد القلم هو الناقش لصور ، وليس من شرطهما أن يكون قصبا أو خشبا المعلومات في اللوح ، واللوح هو المنتقش بتلك الصور ، بل من شرطهما أن لا يكونا جسمين فالجسمية لا تدخل في حد القلمية واللوحية هو ما ذكرنا والزائد عليه صورته لا معناه ، فلا يبعد أن يكون قلم الله تعالى ولوحه لائقا بإصبعيه ويده ، وكل ذلك على ما يليق بذاته وإلهيته فتقدس عن حقيقة الجسمية ، بل جملتها جواهر روحانية. عالية بعضها معلم كالقلم ، وبعضها متعلم كاللوح ، فإن الله تعالى علم بالقلم ، فإذا فهمت نوعي الوجود فقد كان نبيا قبل آدم عليهالسلام بمعنى الوجود الأول التقديري دون الوجود الثاني الحسي العيني ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين آمين.