بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله حق حمده ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد رسوله وعبده ، وعلى آله وصحبه من بعده.
أما بعد ؛ فاعلم أيها الحريص المقبل على اقتباس العلم ، المظهر من نفسه صدق الرغبة وفرض التعطش إليه ، أنك إن كنت تقصد بطلب العلم المنافسة والمباهاة والتقدم على الأقران واستمالة وجوه الناس إليك وجمع حطام الدنيا ، فأنت ساع في هدم دينك وإهلاك نفسك وبيع آخرتك بدنياك ، فصفقتك خاسرة وتجارتك بائرة ومعلمك معين لك على عصيانك وشريك لك في خسرانك ، وهو كبائع سيف من قاطع طريق كما قال صلىاللهعليهوسلم : " من أعان على معصية ولو بشطر كلمة كان شريكا له فيها».
وإن كانت نيتك وقصدك بينك وبين الله تعالى من طلب العلم الهداية دون مجرد الرواية فأبشر ، فإن الملائكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت ، وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت ؛ ولكن ينبغي لك أن تعلم قبل كل شيء أن الهداية التي هي ثمرة العلم ، لها بداية ونهاية وظاهر وباطن ، ولا وصول إلى نهايتها إلا بعد إحكام بدايتها ، ولا عثور على باطنها إلا بعد الوقوف على ظاهرها.
وها أنا مشير عليك ببداية الهداية لتجرب بها نفسك وتمتحن بها قلبك ، فإن صادفت قلبك إليها مائلا ونفسك بها مطاوعة ولها قابلة ، فدونك التطلع إلى النهايات والتغلغل في بحار العلوم ، وإن صادفت قلبك عند مواجهتك إياها بها مسوقا وبالعمل بمقتضاها مماطلا ، فاعلم أن نفسك المائلة إلى طلب العلم هي النفس الأمارة بالسوء ، وقد انتهضت مطيعة للشيطان اللعين ليدليك بحبل غروره فيستدرجك بمكيدته إلى غمرة الهلاك ، وقصده أن يروج عليك الشر في معرض الخير حتى يلحقك بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وعند ذلك يتلو عليك الشيطان فضل العلم ودرجة العلماء وما ورد فيه من الآثار والأخبار ، ويلهيك عن قوله صلىاللهعليهوسلم : " من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلّا بعدا" ، وعن قولهصلىاللهعليهوسلم : " أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه". وكانصلىاللهعليهوسلم يقول : " اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع وعمل لا يرفع ودعاء لا يسمع" ، وعن قوله صلىاللهعليهوسلم : " مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من أنتم؟ قالوا : كنّا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشّرّ ونأتيه».
فإياك يا مسكين أن تذعن لتزويره فيدليك بحبل غروره ، فويل للجاهل حيث لم يتعلم مرة