واحدة! وويل للعالم حيث لم يعمل بما علم ألف مرة!
واعلم أن الناس في طلب العلم على ثلاثة أحوال : رجل طلب العلم ليتخذه زاده إلى المعاد ، ولم يقصد به إلا وجه الله والدار الآخرة ، فهذا من الفائزين ، ورجل طلبه ليستعين به على حياته العاجلة ، وينال به العز والجاه والمال ، وهو عالم مستشعر في قلبه ركاكة حاله وخسة مقصده ؛ فهذا من المخاطرين ، فإن عاجله أجله قبل التوبة خيف عليه من سوء الخاتمة وبقي أمره في خطر المشيئة ، وإن وفق للتوبة قبل حلول الأجل وأضاف إلى العلم العمل وتدارك ما فرط فيه من الخلل ، التحق بالفائزين ؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ورجل ثالث استحوذ عليه الشيطان ، فاتخذ علمه ذريعة إلى التكاثر بالمال والتفاخر بالجاه والتعزز بكثرة الأتباع ، يدخل بعلمه كل مدخل رجاء أن يقضي من الدنيا وطره ، وهو مع ذلك يضمر في نفسه أنه عند الله بمكانة لاتّسامه بسمة العلماء وترسّمه برسومهم في الزي والمنطق ، مع تكالبه على الدنيا ظاهرا وباطنا ؛ فهذا من الهالكين ومن الحمقى المغرورين ، إذ الرجاء منقطع عن توبته لظنه أنه من المحسنين وهو غافل عن قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢] وهو ممن قال فيهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : " أنا من غير الدّجّال أخوف عليكم من الدّجّال ، فقيل : وما هو يا رسول الله؟ فقال: علماء السّوء». وهذا لأن الدجال غايته الإضلال ، ومثل هذا العالم وإن صرف الناس عن الدنيا بلسانه ومقاله فهو داع لهم إليها بأعماله وأحواله ، ولسان الحال أفصح من لسان المقال ، وطباع الناس إلى المشاهدة في الأعمال أميل منها إلى المتابعة في الأقوال ؛ فما أفسده هذا المغرور بأعماله أكثر مما أصلحه بأقواله إذ لا يستجرئ الجاهل على الرغبة في الدنيا إلا باستجراء العلماء ، فقد صار علمه سببا لجرأة عباد الله على معاصيه ، ونفسه الجاهلة مدلة مع ذلك تمنيه وترجيه ، وتدعوه إلى أن يمنّ على الله بعلمه ، وتخيل إليه نفسه أنه خير من كثير من عباد الله. فكن أيها الطالب من الفريق الأول ، واحذر أن تكون من الفريق الثاني! فكم من مسوف عاجله الأجل قبل التوبة فخسر ، وإياك ثم إياك أن تكون من الفريق الثالث فتهلك هلاكا لا يرجى معه فلاحك ولا ينتظر صلاحك.
فإن قلت : فما بداية الهداية لأجرب بها نفسي؟
فاعلم أن بدايتها ظاهرة التقوى ، ونهايتها باطنة التقوى ، فلا عاقبة إلا بالتقوى ، ولا هداية إلا للمتقين. والتقوى عبارة عن امتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه ، فهما قسمان. وها أنا أشير عليك بجمل مختصرة من ظاهر علم التقوى في القسمين جميعا ، وألحق قسما ثالثا ليصير هذا الكتاب جامعا مغنيا والله المستعان.
القسم الأول في الطاعات
اعلم أن أوامر الله تعالى فرائض ونوافل : فالفرض رأس المال وهو أصل التجارة وبه تحصل النجاة ، والنفل هو الربح وبه الفوز بالدرجات ، قال صلىاللهعليهوسلم : " يقول الله تبارك وتعالى : ما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل أداء ما افترضت عليهم ، ولا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى