فإذا أحس أن الذباب قد اطمأن دب منه دبيبا دقيقا حتى لا ينفره حتى إذا صار قريبا منه بحيث يناله بوثبة وثب عليه فأخذه ، فإذا أخذه اشتمل عليه بجسده كله خشية أن يتخلص منه الذباب فلا يزال قابضا عليه حتى يحس ببطلان حركته فيقبل عليه فيتغذى منه بما يلائمه فانظر إلى هذه الحيلة من فعله أو هي مخلوقة من أجل رزقه فسبحانه البارئ الحكيم.
انظر إلى الذر والبعوض الذي أوهن الله قوتها وأصغر قدرها وضرب بها المثل في كتابه ، هل تجد فيه نقصا عما فيه صلاحها من جناح تطير به ورجل تعتمد عليها وبصر تقصد به موضعا تنال فيه قوتها وآلة لهضم غذائها وإخراج فضلته. وانظر هل يمكن أن يعيش من غير قوت وهل يمكن أن يكون القوت في غير محل واحد ، وإخراجه فضلته من غير منفذ ، ثم انظر كيف دبرها العزيز الحكيم ، فسواها وقدر أعضاءها واستودعها العلم والمعرفة بمنافعها ومضارها ، وكله دليل على علمه وقدرته وحكمته البالغة ، فهي بعوضة صغرت في النظر ، ومع هذا فلو أن أهل السماوات والأرض من الملائكة ، فمن دونهم من العالمين وسائر الخلق أجمعين أرادوا أن يعرفوا كيف قسم الخالق سبحانه أجزاءها وحسن اعتدال صورتها في أعضائها لما قدروا على ذلك إلا تظاهرا لمنظر العجز منهم على عدم علم حقيقة الخبر ، ولو اجتمعوا ثم تفكروا كيف ركبت معرفتها حتى عرفت أن ما بين الجلد واللحم دما وهو الذي منه غذاؤها ، ولو لا معرفتها به لم تدم على مصه تطعمه وكيف همتها التي قصدت بها أن تطير إلى الموضع الذي ألهمها ربها أن فيه غذاءها ، وكيف خرق سمعها ، وكيف سمعت حس من يقصدها وكيف عرفت أن نجاتها في الفرار إذا ولت هاربة ممن قصدها فلن يدرك ذلك منها الخلائق أجمعون ، ولو جزّءوها ، ما ازدادوا في أمرها إلا عمى وبعدا عن المعرفة ، فهذه الحكمة والقدرة في بعوضة فما ظنك بجميع مخلوقاته سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
باب في حكمة خلق السمك وما تضمن خلقها من الحكم
قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) [النحل : ١٤].
انظر واعتبر بما خلق الله تعالى في البحار والأنهار من الحيوان المختلف الصور والأشكال ، وما فيه من الآيات البينات ، فإنه تعالى لما جعل مسكنه في الماء لم يخلق له قوائم ولم يخلق فيه رئة ، لأنه لا يتمشى وهو منغمس في لجة الماء ، وخلقت له مكان القوائم أجنحة شداد يحركها من جانبه فيسير بها حيث شاء ، وكسا جلده كسوة متداخلة صلبة تخالف لحمه متراصة كأنها درع لتتقيه ما يعتدي عليه وما يؤذيه ، وما لم يخلق له من السمك تلك الكسوة وهي القشر المتداخل المخلوق على ظاهره خلق له جلدا غليظا متقنا يقوم له مقام تلك الكسوة لغيره ، وخلق له بصرا وسمعا وشما ليستعين بذلك على نيل قوته والهرب مما يؤذيه. وانظر كيف أعطي في قعر البحر ما يناسبه في نيل القوت والهرب مما يضره ، ولما علم الله